حل الشاعر سيف الرحبي ضيفاً على مدينة جدة في السعودية أياماً عدة، وكُرم خلالها من منتدى "إثنينية عبدالمقصود خوجة"، الذي سبق أن كرم شخصيات ثقافية مهمة. ولمناسبة التكريم التقت "الحياة" الشاعر، فكان هذا الحوار الذي تطرق أيضاً إلى ديوانه الجديد "قطارات بولاق الدكرور" الصادر أخيراً عن دار الجمل. كرمك منتدى "إثنينية عبدالمقصود خوجة". ماذا عنى لك التكريم، خصوصاً أن تكريم الأدباء والمثقفين ليس تقليداً راسخاً في الثقافة العربية، ويخضع للاجتهادات الفردية، بعكس الحال في الثقافات الأخرى، إذ يأتي التكريم مسألة جوهرية وعنصراً أساسياً فيها؟ - تكريم الأدباء والشعراء في حالتنا العربية مسألة ضرورية، خصوصاً بالنسبة الى أسماء كثيرة، غيري أنا طبعاً، أسماء قطعت شوطاً زمنياً وإبداعياً كبيراً، هذا التكريم نوع من التفاتة كريمة واحتفائية مهمة لهم. أعتقد بأن التكريم لدى الشعوب والمؤسسات المتحضرة التي تحترم نفسها، نوع من تقليد صميمي وحضاري فيها. في العالم العربي هذه المسألة قليلة، لكن هناك بعض المؤسسات الرسمية والأهلية التي تقوم بها، بين فترة وأخرى، وهي بوادر ينبغي تعميقها في شكل مقنع أكثر، والتكريم إذا جاء في هذا السياق يكون ممتازاً. في ليلة تكريمي من"اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة"في جدة، التي لم أكن أعرف عنها سوى القليل، فوجئت باحتفاء كبير، وبدراسات عن شعري والتقيت بأصدقاء لي. وأتاح لي التكريم الاطلاع على الجو الثقافي في مدينة عريقة مثل جدة،كما في المشهد الثقافي السعودي عموماً. في ديوانك الجديد"قطارات بولاق الدكرور"، يلاحظ الاحتفاء بالخراب والغياب، أيضاً هناك تأمل يرتفع بالأشياء والموجودات إلى مرتبة الميتافيزيقي، على رغم أن القارئ كان ينتظر نصاً آخر، ينطوي على مشاهدات ومراقبة للحيوات في هذا الحي القاهري؟ - ربما من خلال قراءة العنوان"قطارات بولاق الدكرور"، يتوقع القارئ احتفاء وكلاماً وشعراً ونثراً حول هذا الحي الشهير في القاهرة، والذي كنت أسكن فيه مطلع العمر، لكن حقيقة الأمر، المسألة تذهب إلى أبعد من ذلك، فليس ثمة احتفاء سوى بالغياب، بخرائب الكائن والمكان، هناك نوع من رؤية رثائية فاجعة لهذا التواري القاسي للوجوه والألفة الروحية، التي كانت سائدة في الماضي. يعني هناك قراءة وجودية وروحية للمكان في تجلياته القاسية، وأيضاً كما أشرت، نوع من ميتافيزيقا أرضية للأماكن والوجوه والغياب. في مجمل نصوص الديوان قاربت حالات الخراب البشري والإنساني، وصلت إلى قراءة تستشرف الخراب أكثر مما تستشرف غيره. لكن هذه الرؤية أو هذا الاستشراف لا يبعده عن الشرط الجمالي والتأمل الجمالي للأشياء، وربما هو في تضاريس وتضاعيف هذه الرؤية ومرتكز أساس لها. بمعنى آخر ليست هناك ميلودراما أو فاجعية برانية بمقدار ما هناك تأمل جمالي للعالم، لكن في تبدّلاته وفي حالاته المختلفة وفي تصدعاته، من زوايا ومشاهد مختلفة، كي نصل إلى صيغة معينة إلى النص أو القصيدة. ليس هناك هوية معلبة سلفاً، حتى على الصعيد الخرابي والقيامي للعالم، بمقدار ما هناك نوع من قراءات متواترة لمشاهد وحالات وأماكن وشخوص مختلفة في هذا العالم الذي نعيشه. ارتبطت بالصحراء أكثر من أي شاعر آخر في الجزيرة العربية، ما الذي جعل لها كل هذه المكانة الحضور المؤثر في تجربتك؟ - الصحراء هي قدر ومصير حتمي بالنسبة إلى الكائن الذي أتمثله، وبالنسبة إلى النص الشعري هناك ربما نوع من قلق مستمر تجاه النص العالم والحياة. لكن بالنسبة إلى الصحراء التي عشتها أنا واقعياً وأعيشها رمزياً وشعرياً، هذه الثيمة تشكل عنصراً صميمياً في كياني الجسدي والروحي والشعري، فهذا العنصر دائماً يخترق معظم التجارب، ويحاول أن يقارب ويستقرئ المكان والصحراء والمحيط الجبلي والبحري لهذه الصحراء، ويحاول أن يقرأها ويستنطقها وجودياً وروحياً، ويدفع بها إلى مشارف جديدة، وإلى مقترح ربما يكون جديداً وغير نمطي. أكثر من عشر سنوات مرت اليوم على انطلاقة مجلة"نزوى"... هل تعتقد بأنها حققت بعض الأهداف التي تأسست من أجلها؟ - إلى حد ما يمكن أن أزعم ذلك. وأزعم أيضاً أنها تنطلق في السياق الطليعي للثقافة العربية، وحاولنا أن نمسك باللحظة التجديدية والحداثية العمانية تحديداً، وهي لحظة كانت مغيبة عن المنابر، كما حاولنا إلقاء الضوء على الكثير من الإنجازات الكلاسيكية في الثقافة العمانية. وأتصور أن هذه الأمور تبلورت في سياق واضح نوعاً ما، أي أن"نزوى"مجلة عربية من خلال تعدد الأصوات والمشارب والاتجاهات الثقافية والفكرية العربية، وتواصل مشوارها في مكابدة، وهو طريق ليس بالسهل، وبخاصة في بيئات غير مؤسسة لثقافة حديثة من هذا النوع، فتكون المهمة صعبة أكثر من بلدان أخرى تأسست فيها منابر، وحرثت الأرض السلفية باتجاه تطلعات جديدة ومتراكمة، وفيها نوع من إرث متراكم على الصعيد التنويري والتحديثي. هنا المسألة مزدوجة، على صعيد الصعوبة واختراق المألوف والسائد. وهنا كوكبة من المثقفين والكتاب العمانيين، نتعاطى معاً للوصول إلى نقطة تتقاطع وتتساوق مع الثقافة العربية، على صعيد تجديدها وعلى صعيد طموحها التحديثي والإبداعي. حمّلت في مقال لك الأكاديميين العرب المقيمين في مسقط، مسؤولية تدهور الثقافة في عمان، وأبديت نبرة تشاؤمية حيال نهوض أي فعل ثقافي طليعي في بلدك؟ - ما لمسته أن كثيراً من الأخوان الذين جاؤوا من بلدان عربية، بخاصة من بعض الجامعات المصرية، لم يسهموا إلا بعكس ما كنا طرحناه على صعيد مجلة"نزوى"وغيرها. كنا نرغب في أن يسهموا بمقترحات إبداعية في تربة سلفية منطوية جداً على ذاتها. فكان إسهامهم سلبياً جداً، وكثير منهم ممالئين للثقافة النمطية والسائدة التي تجاوزها الزمن، ولم تعد مؤثرة إطلاقاً، وليس فيها أي نوع من الحيوية. إذ كانوا يشجعون الظواهر التي أعتبرها متخلفة ونكوصية وتعيش زمناً غير زمنها، ويحاربون محاولات التحديث والتجديد في الثقافة العمانية، ما أثار نقاشاً وسجالاً حول هؤلاء في المشهد الثقافي العماني. لكن الحال التجديدية والتنويرية، إذا صحت هذه الكلمة الأخيرة، استطاعت على رغم كل ذلك أن تحفر مجراها في صورة أفضل عبّرت عن جهد إبداعي وكفاحي في هذا السياق. أخيراً، كيف تصف علاقتك بالشعراء والكتاب العمانيين؟ - كثير منهم أصدقائي، من شعراء وقاصين وروائيين. لكن دعني أتطرق هنا إلى ظاهرة سردية في عمان ينبغي الإشارة إليها، إذ توجد مجموعة من كتاب القصة والرواية، يحاولون طرح تجارب مهمة جداً على الصعيدين الخليجي والعربي، هذه مسألة لا بد من الانتباه إليها. أيضاً هناك البحث الأكاديمي الذي يبشر بطرح جريء وعميق من أساتذة أدباء، وفي الوقت نفسه من أكاديميين، مثل ما هو موجود في السعودية واليمن. هؤلاء يخوضون غمار تجربة تأسيسية، وفي الوقت عينه تعتبر متقدمة جداً على صعيد الثقافة العمانية والعربية.