تعلق المخرج المسرحي فاضل الجاف بالمنهج الإخراجي لفسيفولد مييرهولد، الروسي الذي استنبط مدرسة إخراجية كاملة هي "البيوميكانيك". منذ تعرف الجاف إلى هذه المدرسة واستوعب جوانبها الإبداعية غدت بالنسبة إليه منارة تضيء جنبات خشبة المسرح وربما الحياة. فهو لم يكتف بتطبيق المنهج المييرهولدي في إخراجاته الكثيرة للنصوص المسرحية التي أنزلها منزلة الحركة على المسرح بل وضع ايضاً كتاباً عن هذا المخرج الروسي ومنهجه لعله الأول من نوعه في التفاصيل والتحليل والاستقصاء. الكتاب يحمل عنوان" فيزياء الجسد"إصدارات دائرة الثقافة، الشارقة وهو مجموعة من البحوث النظرية تحاول الإحاطة بالمنهج المييرهولدي وفهم خلاصاته فضلاً عن حوارات مع مخرجين عالميين تأثروا بعمل مييرهولد وأفلحوا في تطبيق وجهة نظره الإخراجية في نشاطهم المسرحي. كتبت مقدمة الكتاب غالينا تيتوفا البورفسورة في أكاديمية سان بطرسبورغ لفن المسرح. وهي تذكر أنها تعرفت على فاضل الجاف بعد أن وصل إلى قسم الدكتوراه في أكاديمية سان بطرسبورغ. ولم تستطع أن تكبت دهشتها حين علمت أن القادم من منطقة بعيدة تدعى كردستان العراق ينوي تكريس بحثه للميراث الإخراجي لمييرهولد. كان الهدف الأساس لمسعى الجاف فهم العلاقة القوية التي تشد المخرج إلى الممثل في منهج مييرهولد. وهذا ما كان يريد أن يتعمق فيه. ففي رأيه أن الممثل هو بؤرة العمل المسرحي الأساسية وأن تفجير طاقاته وتكثيف إمكاناته هما السبيل الوحيد لتحقيق إنجاز إخراجي باهر. كان مييرهولد أفلح في فعل ذلك من خلال التركيز على جسد الممثل وحركاته وقواه الفيزيائية. وتلخص ذلك في نهاية المطاف في ما بات يعرف بمنهج البيوميكانيك الذي ارتبط باسمه. يروي الكتاب، في ما يشبه السرد الروائي الشيق، تفاصيل عن حياة مييرهولد وسعيه الأبدي الى الإخلاص للإبداع المسرحي قبل أي ولاء آخر. الفن كيان قائم بذاته وليس لأي مفصل آخر، كان حزباً أو وطناً أو سلطة أو طبقة، أن يخرق كينونته ويهدد استقلاله. لأن كل اعتداء على استقلال الفن إنما هو قتل له. ولكن ما كان لفكرة كهذه أن تنتصر في عتمة الاستبداد الستاليني. وكان على مييرهولد أن يدفع ثمن الانتماء للمسرح لا للسلطة التي كانت بيد الزعيم الأوحد. وعلى رغم نجاحاته الهائلة وبروز إسمه في العالم كله وسطوع تجاربه ومتانة علاقته بستانيسلافسكي وباسترناك وإيزنشتاين كمن له رجال البوليس الستاليني وأودعوه السجن. كتبت زوجته، الممثلة الكبيرة زينادا رايخ، رسالة شخصية إلى ستالين نفسه لإطلاق سراح زوجها ولكن بدلاً من الاستجابة لدعوتها دخل عليها رجال المخابرات وانهالوا عليها بالسكاكين ومزقوا جسدها حتى فارقت الحياة. أما مييرهولد فقد حكم عليه بالموت وأعدم بالرصاص. وخلال 15 سنة أعقبت مقتله لم يذكر اسمه وجرى حظر كل ما له علاقة بمسرحه ومنهجه وكتاباته. ومع هذا ظل تأثيره يتسرب الى المسارح العالمية وراحت الدراسات وورشات العمل تنهض لتؤكد قوة موهبته ونفاذ تأثيره في الإبداع الإخراجي على مستوى المسرح العالمي ككل. يعود الفضل إلى المخرج السينمائي أيزنشتاين في إخفاء كل ما خلفه مييرهولد في منزله الصيفي من كتابات وتراث نظري في المسرح وحفظه، ويعود إعجاب أيزنشتاين بمييرهولد إلى اهتمام المخرج السينمائي بالبيوميكانيك الذي يظهر جلياً في فيلمه"إيفان الرهيب"، لكن أهم إنجاز حققه من تأثره بأفكار مييرهولد هو فكرة المونتاج في السينما، ولعله من اهم الإنجازات في تاريخ السينما. يحاول هذا الكتاب أن يقنع قارئه بأن فسيفولد مييرهولد هو أحد أولئك العباقرة من رجال المسرح الذين لا تنحسر أهميتهم بمرور الزمن بل إن إسهاماتهم المبدعة تتجلى أكثر فأكثر كلما مر الوقت. كانت أمنية مييرهولد، قبل أن يموت، هي أن يقوم بإخراج مسرحية هاملت. وهو أخذ يردد: إذا مت قبل إخراج هاملت فاكتبوا على شاهدة قبري: هنا يرقد المخرج الذي لم يتمكن من إخراج هاملت. الإسهام الفذ لمييرهولد يقوم في اجتراح فكرة الممثل الجسد. علم مييرهولد تلاميذه دائماً أن لاحاجة للانفعالات حيث ينبغي توافر الحركة الجسدية الصحيحة قبل كل شيء. إن الممثل حسب تعابير مييرهولد يستطيع أن يتألم أو حتى أن يموت على خشبة المسرح إلا أنه إذا لم يدرك كيف ينقل آلامه إلى المشاهد بحركة جسدية صحيحة فإنه ليس بممثل. يعتبر مييرهولد ان كل شيء على المسرح عبارة عن حركة. ولعل الهاجس المييرهولدي هو الذي كان يحرك الجاف حين دعته جمعية المسرحيين في الشارقة ليشرف على مهرجان المسرح وليقيم دورات الإخراج البيوميكانيكي، وهو في كل ذلك يبحث في العلاقة بين الدراماتورجيا والحركة، أي كيف يكتسب المخرج مهارات في التعامل مع الجسد في الفضاء المسرحي وكيف يستمد المخرج تشكيلاته من المعاني الكامنة في النص. بالنسبة إليه فإن العمل على تكوين مثل هذه اللغة وبلوّرتها وصقلها هو في صلب عمل المخرج.