عندما تسلم غوردون براون مقاليد رئاسة الوزراء من توني بلير في 27 حزيران يونيو الماضي، وعد بإطلاق حقبة سياسية جديدة تعيد ثقة البريطانيين بالحكومة، ولكن، بعد مرور ستة أشهر، يتخبط براون في موجة من الفضائح والاخفاقات شوهت سمعته وأظهرته قائداً ضعيفاً يفقد شيئاً فشيئاً السيطرة على حكومة اتسمت بعجز فادح. ويحقق جهاز"اسكوتلند يارد"البريطاني هذه الأيام في فضيحة تبرعات سرية غير قانونية قدمها رجل الأعمال ديفيد أبراهامز لحزب العمال عبر أربعة أشخاص، وبلغت قيمتها 670000 جينه إسترليني. قد يصبح غوردون براون رئيس الوزراء الثاني في بريطانيا الذي يخضع لاستجواب من الشرطة، والأول كان توني بلير الذي حُقق معه أكثر من مرة حول فضيحة منح ألقاب شرفية لقاء مبالغ نقدية تورط بها اللورد ليفي، رئيس صندوق جمع التبرعات في حزب العمال والمبعوث الخاص السابق لبلير في الشرق الأوسط. واعتُقل ليفي مرتين، لكن، لم توجّه إليه أو لغيره اتهامات. وما يثير موجة من الذهول في بريطانيا هو أن الحكومة العمّالية عادت لتغرق مجدداً في فضيحة مالية أخرى، وهناك احتمال جدي بأن تصدر تهم جنائية في حق بعض المتورطين في الفضيحة، بمن فيهم شخصيات مقربة من الحكومة، وأن يحالوا على القضاء. وفور نشر خبر التبرعات غير القانونية في إحدى الصحف البريطانية، استقال بيتر وات، الأمين العام لحزب العمال، الذي كان على علم بتمرير هذه المبالغ عبر قنوات سرية. وادعى وات أنه لم يكن يعلم أن المبالغ غير قانونية، وهو أمر وجد الكثيرون صعوبة في تصديقه. وقد لا تكون هذه الاستقالة الوحيدة نتيجة الفضيحة. إذ هناك الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل جون مندلسون الذي عيّنه براون رئيس صندوق جمع التبرعات في أيلول سبتمبر الماضي. وادعى مندلسون ووات أنهما كانا يجهلان أن آلية التبرعات السرية غير شرعية. ويدعي أبراهامز أن عشرة من كبار الأعضاء في حزب العمال على الأقل كانوا يعرفون بأمر هذه التبرعات وهدّد بكشف أسمائهم. ووُصف مندلسون على لسان البعض بپ"اللورد ليفي الجديد"كونه، هو أيضاً، عضواً في تجمع"أصدقاء إسرائيل داخل حزب العمال"وسبق أن ترأسه. وجاء استطلاع للرأي أجرته جريدة"ديلي تيليغراف"في أواخر شهر تشرين الثاني نوفمبر ليقدم دليلاً قاطعاً على تدهور شعبية براون وحكومته. فبحسب الاستطلاع، حلّ حزب المحافظين في المرتبة الأولى متقدماً على حزب العمال بإحدى عشرة نقطة. وأفاد 43 في المئة ممن استطلعت آراؤهم أنهم سيصوتون لحزب المحافظين في الانتخابات المقبلة، مقارنةً مع 32 في المئة لحزب العمال، و14 في المئة للديموقراطيين الأحرار. وفي حين أن ما لا يزيد على 23 في المئة من المشاركين في الاستطلاع أبدوا رضاهم عن سياسة غوردون براون في رئاسة الوزراء، أفاد 59 في المئة منهم أنهم لم يحققوا تطلعاتهم. وارتفعت نسبة الذين يعتقدون أن حزب العمال يعطي انطباعاً سيئاً إلى 60 في المئة، مقابل 28 في المئة فقط لم يؤيدوا هذا الرأي. وحتى اليوم، لا يزال الضباب يكتنف هوية الأطراف المتورطة في هذه الفضيحة والمعلومات التي كانت في حوزتها. وعُلم أن هارييت هارمن المسؤولة الثانية في حزب العمال قبلت مبلغاً قدره خمسة آلاف جنيه استرليني من جانيت كيد، إحدى الشخصيات الأربع التي قيل إنها تولت مهمة توزيع التبرعات بعد تسلمها من ديفيد أبراهامز. واستخدمت هارمن المبلغ لتمويل حملتها في إطار انتخاب نائب زعيم الحزب، لكنها أوضحت أن كريس لسلي، منسق حملة غوردون براون لرئاسة الحكومة، هو من اقترح اسم جانيت كيد ممولة محتملة للحملة. وأدى هذا التصريح إلى ورود معلومات عن خلاف بين هارمن وبراون، علماً أن الناطق باسم رئيس الوزراء نفى هذا الأمر وأكد دعم براون التام لهارمن. وليست فضيحة التبرعات سوى عينة من موجة المشاكل التي تجتاح براون حالياً والتي بدأت عندما أقنع فريق عمله بعدم إجراء انتخابات عامة في البلاد. فبعد تولي براون رئاسة الوزراء، حظي ولو لفترة قصيرة بدعم البريطانيين، وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي في حينه، وبدأ فريق عمله المقرب بالتحضير لانتخابات عامة كان من المفترض أن تأتي لبراون بولاية حكومية من الشعب، بدلاً من الاكتفاء بوراثة منصب رئيس الوزراء من بلير. ولكن، في أوائل تشرين الأول أكتوبر، نظم ديفيد كامرون زعيم حزب المحافظين وفريقه مؤتمراً للحزب لاقى أصداءً حسنة، فبدأت شعبية كامرون تتحسن في استطلاعات الرأي، وأدرك براون عندها أن حزب العمال قد لا يحقق نتائج جيدة في الانتخابات العامة. وهكذا، ألغيت فجأة خطة إجراء الانتخابات، مما جعل براون يبدو ضعيفاً ومتردداً، ومعتمداً إلى حد كبير على استطلاعات الرأي. والمشاكل التي يواجهها حالياً قطاع المال والأعمال في بريطانيا هي في أساس استياء الشعب البريطاني من حكومة براون. وغالباً ما يفتخر رئيس الوزراء بالأداء الجيد للاقتصاد عندما كان وزيراً للمال طوال عشر سنوات خلال ولاية بلير. إلا أن بريطانيا اليوم على شفا انكماش اقتصادي، وهو واقع يعود جزئياً إلى تردي الأوضاع المالية في الولاياتالمتحدة. فأسعار العقارات تتراجع بوتيرة أسرع من التدني الذي شهدته خلال السنوات الإثنتي عشرة الماضية، والقروض التي حصلت عليها شريحة كبيرة من البريطانيين تفوق بكثير قدرتها على إعادة تسديد هذه المبالغ. وعلى رغم أن الأداء السيئ للاقتصاد ليس مرتبطاً مباشرة بسياسة الحكومة، إلا أن الناخبين سيلقون على الأرجح المسؤولية على براون ووزرائه. وشكل الإفلاس المتوقع لمصرف"نورزرن روك بانك"تحدياً بالغاً للحكومة، وخصوصاً لوزير المال ألستر دارلينغ. وبلغت حتى اليوم المساعدة التي خصصتها الحكومة للمصرف تفادياً للإفلاس 24 بليون جنيه استرليني، أي ما يعادل 1000 جنيه لكل مكلف في بريطانيا أو 400 مستشفى جديد للأطفال، مع الإشارة إلى أن المصرف قد لا يكون في استطاعته إعادة هذا المبلغ بكامله الى الحكومة في مرحلة لاحقة. ومن الأسباب الأخرى لتذمر البريطانيين الخطأ الفادح الذي تمثل في فقدان قرصين مدمجين يحملان بيانات مصرفية ومعلومات شخصية تعود إلى 25 مليون بريطاني أثناء إرسالهما من دائرة الضرائب والجمارك إلى المكتب القومي للتدقيق. وشملت البيانات المفقودة تواريخ ولادة وعناوين سكن وأرقام ضمان وتفاصيل عن حسابات مصرفية، في ما يمكن اعتباره بمثابة هدية لا تثمّن للمجرمين الناشطين في عمليات احتيال وسرقة هويات. وعلى رغم هذه الفضيحة، فإن حكومة براون كثفت الجهود لتطبيق قرار حكومة بلير بتزويد الاستمارات الرقمية لدى الحكومة بأكبر قدر من المعلومات عن المواطنين لأسباب أمنية، والمواطنون لا يثقون بقدرة الحكومة على الاحتفاظ بهذه المعلومات الحساسة. وأقرت وزيرة الداخلية جاكي سميث في أواسط شهر تشرين الثاني بأن حوالى عشرة آلاف مهاجر من خارج الاتحاد الأوروبي دخلوا بصورة غير شرعية وحصلوا على تصاريح للعمل في شركات أمن داخل بريطانيا. ويعمل هؤلاء المهاجرون الذين يشكل بعضهم خطراً أمنياً على البلاد منذ فترة في وظائف حساسة كحماية الموظفين والمباني الحكومية. وعلمت سميث بأمر هؤلاء المهاجرين في تموز يوليو عندما تولت وزارة الداخلية، إلا أنها قررت عدم الإفصاح بناءً لنصيحة المكتب الإعلامي في الوزارة. ومضى براون قدماً في قرار توني بلير إدخال بطاقات هوية إلزامية وهي عملية تفترض تكاليف باهظةً على فترة عشر سنوات قُدرت بحسب الحكومة بمبلغ 5.6 بليون جنيه استرليني، مع الإشارة إلى صدور تقديرات أخرى تدل على أن هذا الإجراء سيتطلب مبالغ أكبر. وعارض المحافظون والديموقراطيون الأحرار نظام بطاقات الهوية بحجة أنه يقيّد الحريات الفردية، فضلاً عن أنه لا يمكن الثقة بالحكومة لحماية المعلومات الشخصية التي ستتضمنها هذه البطاقات. وردت الحكومة موضحةً أن البيانات الحيوية الموجودة على البطاقات على شكل بصمات أو صورة للقزحية ستكون بعيدة عن المجرمين، إلا أن بعض الخبراء يؤكدون أن هؤلاء لن يجدوا صعوبة في تزوير البيانات الحيوية. وتلقى براون صفعة إضافية عندما أقدم خمسة من قادة أركان الجيش في خطوة مفاجئة على توجيه انتقادات لاذعة ضده في مجلس اللوردات. وأخذ هؤلاء القادة الكلام واحداً تلو الآخر وهاجموا رئيس الوزراء شخصياً، حتى قال أحدهم إن براون تعامل مع القوى المسلحة البريطانية بپ"ازدراء". وسبب الغضب في صفوف القوى المسلحة هو إقدام براون على إعادة تعيين ديس براوني وزيراً للدفاع، وتعزيز صلاحياته بمنحه منصب وزير شؤون اسكتلندا. وارتفعت أصوات تقول إن براوني يقوم بپ"دوام نصفي"كوزير للدفاع، في حين ترزح القوات البريطانية تحت ضغوط جمة في أفغانستان والعراق. ويبدو أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فعندما تفجرت فضيحة التبرعات السرية، كان ديفيد كامرون في واشنطن في لقاء مع الرئيس جورج بوش ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وأعطى زعيم حزب المحافظين انطباعاً بأنه رجل دولة ومرشح جيد لرئاسة الوزراء. وهزأ فينس كيبل، القائم بأعمال زعيم حزب الديموقراطيين الأحرار، من براون في البرلمان مصرّحاً أن مجلس العموم لاحظ"خلال الأسابيع القليلة الماضية التحول اللافت لرئيس الوزراء من ستالين إلى مستر بين". مستر بين هو بطل سلسلة من الأفلام الكوميدية البريطانية، وهو معروف بسذاجته ومواقفه المضحكة. وتسود نواب حزب العمال حالة من اليأس، دفعت بوب مارشال أندروز إلى القول:"معظمنا يشعر بأننا نعيش تراجيديا شيكسبيرية... المصائب تتوالى، ونحن نتجه نحو كارثة بدأت تلوح في الأفق". والتحدي الذي يواجهه براون هو قدرته على تخطي المشاكل الحالية الحادة التي تعترضه وعلى تحقيق فوز رابع لحزبه في الانتخابات. ويفصلنا عن الموعد المحتمل للانتخابات العامة أكثر من 18 شهراً. والكل يعلم أن الأمور قد تتغير قبل هذا الموعد، بما في ذلك إقدام كامرون والمحافظين على اقتراف أخطاء سياسية. ولكن، على رغم ذلك، تبقى العاصفة السياسية على براون الآن وفي المستقبل القريب حقيقة واقعة. * صحافية بريطانية