يعتبر كتاب شيلنغ "فلسفة الميتولوجيا" من أشهر كتب الفيلسوف الألماني الذي عرف بنزعته المثالية، بل حتى بكونه مركز الثقل في الفلسفة المثالية الألمانية. ومع هذا لم يكن لهذا الكتاب وجود خلال حياة شيلنغ، بل هو صدر للمرة الأولى سنة 1857، ضمن اطار المجلد الثاني من السلسلة الثانية التي تشكل الأعمال الكاملة للفيلسوف. وهذا يعني بالطبع ان"فلسفة الميتولوجيا"لم يصدر في حياة شيلنغ بل بعد موته بثلاث سنوات. والسبب بسيط: شيلنغ لم يضع هذه النصوص، أصلاً على شكل كتاب. بل هي محاضرات ومقالات ألقاها ونشرها متفرقة خلال تدريسه في برلين، المرة الأولى عام 1842، وبعد ذلك بين عامي 1845 - 1846، ومن هنا لم يكن من غير المنطقي أن ينقسم الكتاب في مجمله الى قسمين أساسيين. وحدث له في أحيان كثيرة، منذ نشر للمرة الأولى أن صدر في كتابين متفرقين، إذ رأى كثر من النقاد والناشرين إمكان ان يكون كل قسم مستقلاً في ذاته. لذا جرى الخلط بعض الأحيان، ليقال ان ثمة ثلاثة كتب في هذا السياق، القسم الأول كتاب، والثاني كتاب آخر، والاثنان مجتمعان كتاب ثالث. المهم ان القسم الأول من كتاب شيلنغ هذا يحمل عنواناً يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة له بالميتولوجيا، أي بعلم الأساطير وتاريخها. اذ كيف يكون عن الميتولوجيا كتاب عنوانه"التوحيد الإلهي"؟ ومع هذا فإن دارسي فكر شيلنغ رأوا في هذا النص الذي قالوا دائماً أنه ذو أهمية تاريخية فائقة، ناهيك بأهميته الفلسفية، رأوا فيه مقدمة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها لولوج القسم الثاني من الكتاب وفهم مراميه الحقيقية. ذلك أن في وسعنا أن نتصور أن شيلنغ حين كتب عن الأساطير الميتولوجيا لم يكتب بلغة تعريفية موسوعية بسيطة، بل سعى الى النصوص في عمق الأمور راداً الأساطير الى جذورها وعلاقتها بالوجود البشري، بالتالي معتبراً إياها خطوة أساسية على طريق وعي الإنسان ذاته ووعيه كينونة الإله الذي خلقه جزءاً من الكون. وعلى هذا النحو يصبح مفهوماً بدقة أن"يقدم"شيلنغ لدراسته الفلسفية عن الأسطورة، بنص يطاول واحدة من المسائل الأكثر ارتباطاً بالكينونة: التوحيد الإلهي. أما في القسم الثاني، وبعدما يدرس مفهوم التوحيد هذا، يصل المفكر الى دراسة فلسفة الميتولوجيا، أي النزعات الفلسفية الكامنة وراء ولادة الأساطير، وتكوّن علاقة الفكر البشري بها. منذ البداية يوضح لنا شيلنغ أن الأسطورة، كي تتمكن حقاً من أن تكون أساساً لفلسفة حقيقية، يجب أن تكون شيئاً آخر غير الحكايات وضروب السرد المسلية التي يتناقلها الناس معبرة عن أحداث ومعان عابرة. يتعين على الأسطورة أولاً وآخراً أن تحتوي على حقيقة خاصة بها"وهذه الحقيقة تكمن، بالنسبة الى شيلنغ في واقع ان الأسطورة ليست في نهاية الأمر سوى فكرة الوهية تتحقق في الوعي البشري"وپ"لهذه السيرورة المبادئ نفسها التي تحكم الكينونة والمصير الصيرورة، وبهذا يتعلق الأمر هنا بسيرورة تطور العالم الكونية والمطلقة"، ومن هنا تكون"المسلمة البديهية لكل استنباط فلسفي متكونة انطلاقاً من ابداعات انسانية أسطورية متنوعة، تنطلق جميعاً من تصور الله الخالق بصفته واحداً أحداً، أي كائناً في ذاته، كينونة مطلقة، يتوصل الوعي الإنساني الى ادراكها بأشكال متعددة". وعلى هذا تكون"المسلمة الأساسية، التي يأتي التوحيد للتأكيد عليها، هي أن الخالق هو قوة الكينونة، الكينونة المطلقة الخالصة. الكينونة القائمة في ذاتها والمتموضعة انطلاقاً من ذاتها". وهنا اذ يقول شيلنغ هذا مدعوماً ببراهينه المنطقية، ينتقل الى مستوى آخر من القول ليقول انه"من أجل التحول من هذه الفرضية النظرية الى الكينونة بالفعل، يجب أن يكون ثمة فعل فعل معين - هو فعل الإرادة الإلهية: الخالق هنا هو ذاك الذي يريد أن يكون. وبالنسبة الى هذا المفكر الألماني المثالي تتمظهر هذه الإرادة الإلهية في سيرورة خلق لها امتداداتها في الوعي البشري... وبالتالي فإن هذا التكون الذاتي المتعدد والتدريجي للخالق هو الذي يتموضع تحديداً، في وعي الإنسان على شكل أساطير. واذ يصل شيلنغ هنا الى هذا المستوى العميق من تحليل خطابه الفلسفي الفكري، ينتقل من فوره الى ايراد جملة استنباطات، دقيقة في بعض الأحيان مع أن ثمة بعض دارسي أعمال شيلنغ من يقول انها في بعض لحظاتها المفصلية تتسم بشيء من التبسيط السطحي، وهذه الاستنباطات تتعلق بتحليله ظواهر"الآلهة المتنوعة"التي وجدت عند الإغريق والرومان والهندوس. في هذا السياق قد تبدو هذه الاستنباطات مهمة ومواتية، غير أنها في حقيقة أمرها تنتمي الى التاريخ والى تاريخ الحضارات، أكثر كثيراً من انتمائها الى تاريخ الفلسفة، وفي شكل أكثر تحديداً الى تاريخ فلسفة الأسطورة... من هنا يبقى القسم الأول من الكتاب أي"المقدمة" أكثر أهمية من قسمه الثاني، نظير حال ابن خلدون مع مقدمته التي مهد بها لكتابته تاريخ العالم كتاب"العبر" فإذا بالمقدمة تفوق المتن عمقاً وأهمية. ومهما يكن فإن معظم دارسي شيلنغ تعارفوا دائماً على أن القيمة الأساس لهذا الكتاب تكمن في أنه يشكل محاولة جدية وواعية لتحديد أي مبدأ تأملي يمكنه"أن يجمع في اطار قانون توحيدي، تطور مختلف الأشكال التي تمكنت بها التجربة الإنسانية من أن تتجلى موضوعياً عبر مفاهيم فلسفية ولاهوتية". كما أشرنا أعلاه، كتب شيلنغ هذه النصوص وألقاها في برلين التي كان انتقل للعيش فيها وللتدريس في جامعتها منذ بداية أربعينات القرن التاسع عشر، بعدما نال ترخيصاً بذلك. والحقيقة أن تلك الحقبة البرلينية، وهي الحقبة التي تكاد تكون الأخيرة في حياته وامتدت حتى فترة قصيرة قبل رحيله سنة 1854 في سويسرا، كانت حقبة تحدٍ كبير. فبرلين في ذلك الحين كانت معقلاً للفكر الهيغلي، الذي كان يشكل تحدياً كبيراً لأي فيلسوف يتطلع الى أن تكون له مكانة حقيقية في عالم الفكر الأوروبي. ومع هذا، من دون أن يقف على الضد من هيغل في الكثير من شؤون الفلسفة وتاريخها، تمكن شيلنغ من أن يفرض حضوره، وأحياناً بالصراع مع اليسار الهيغلي. ولسوف يكون من أبرز تلاميذه في المدينة الألمانية العريقة، فلاسفة لاحقون مثل سورين كيركغارد وميخائيل باكونين وفردريش انغلز... ويبدو الأمر غريباً هنا ان نحن أردكنا ان هذين الأخيرين كانا على ارتباط ما باليسار الهيغلي الذي كان يناصب شيلنغ العداء... عاش فردريش ويليام شيلنغ بين 1775 و1854، وهو عرف بكونه واحداً من أشهر الفلاسفة المثاليين الألمان خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ يحتل موضعاً حساساً في هذا الإطار بين فيخته وهيغل. ولقد قال مؤرخو الفلسفة دائماً أن تفسير فلسفة شيلنغ تمثل صعوبة كبرى لأن هذا المفكر الذي لقب بپ"فيلسوف الطبيعة"عبَّر عن فلسفة شديدة التبدل دائمته، هو الذي كان اعتاد، كما يقول كاتبو سيرته، القفز من موضوع فلسفي الى آخر، مفتقراً دائماً الى القوة التي كان من شأنها - لو أمتلكها - أن توجد لديه منظومة فكرية فلسفية واضحة وصلبة. أما أشهر كتب شيلنغ، اضافة الى"فلسفة الميتولوجيا"، فهو كتابه"الفلسفة الطبيعية"، اضافة الى عمله الأساس"عن الذات بصفتها مبدأ فلسفياً".