تسنح لي الفرصة بين الحين والآخر بزيارة أهلي وبعض المقربين من الأصدقاء في مدينة عمّان. مدينة تحفل بذكريات الطفولة والدراسة التمهيدية ثم الاعدادية والجامعية، عدا عن ذكريات العمل كصبي يافع ثم كمعماري. مدينة صغيرة تكاد الأرض تحتها تنأى بحملها، تتكدس فيها وحولها غالبية سكان المملكة، وفيها عصب الحياة الحديثة ومقوماتها مقارنة بمعظم مدن المملكة الأردنية الأخرى التي تطوقها محيطات من الكثبان الرملية لتعزلها كالجزر المتناثرة في أديم الصحراء الممتد. مدينة صغيرة تتوسع باطراد ملحوظ باتجاه الغرب وفي نفس الوقت تنقسم على محور ممتد يفصل شرقها عن غربها ليس فصلاً جغرافياً فحسب وإنما فصلاً اجتماعياً واقتصادياً معلناً عن مدينة أبرز ما يميزها ثنائيات ومفارقات مرعبة: شرق مدقع الفقر يقابله غرب ماجن بالغنى يفصلهما محور شارع الأردن وامتداده شمالاً. وسط متآكل تاريخي مقابل محيط هو مسرح للاجتهادات المعاصرة بدعوى الأصالة. أحياء تصارع أمية الثقافة العالمية واللغات الأجنبية مقابل أخرى تصارع أمية الثقافة والعادات واللغة المحلية. جبل يزهو بمن يسكنه من علية القوم يشرف على واد يكتظ بمن يسكنه ممن خانه حظه في هذه الحياة. وجبل آخر محظوظ لأن وقعت عليه أعين من يصنعون القرار واستثماراتهم فأصبح"راقياً"مقابل جبل آخر قد يخجل بعضهم من الانتساب اليه والسكنى فيه وما به من علة سوى براءته من استثمراتهم وخطط التنمية. غادرت مدينة عمان الدراسة قبيل ما ينوف على العقد الواحد، غادرتها قبل أن يعرف بعض المثقفين فيها ما هو البريد الالكتروني وأيام كان أحدهم يختال بمشيته والجوال الذي كان يتكلف بضعة آلاف الدنانير يتدلى من وسطه المكتنز بالشحم. غادرت المدينة بعد أن سنحت لي الفرصة للمساهمة في تصميم وبناء بعض المساكن الخاصة في شرقها وغربها. غادرتها وقد لاحت آنئذ بوادر التغير المتمثل بالهجرة المعاسكة والرغبة في الاستثمار العقاري من بعض أصدقاء طفولتي الذين فرق بيننا المحيط الاطلسي ردحاً من الزمن. ودعتها وقد احتدم النقاش حول وسط المدينة المحيط بالجامع الحسيني الكبير والممتد لمجمع النقليات بالساحة الهاشمية والمنطقة الجبلية التي تتلوى صعوداً حتى جبل القلعة. نقاش شهدته ردهات المؤسسات الاكاديمية والمهنية والحكومية والقطاع الخاص. تعالت الأصوات وساد هرج ومرج كل يدلي بما لديه من أفكار حالمة نيّرة تطل ببلادة من أبراج الغفلة الاجتماعية والغيبوبة الثقافية المحلية لدرجة أن أحدهم ذهب الى حد اقتراح ايجاد"تلفريك"على غرار سويسرا يصل بين الساحة الهاشمية وبين جبل القلعة التاريخي بما فيه من آثار بعضها يعود للعصر الأموي."تلفريك"في شرق المدينة التي لا تزال تبحث عن مكان لمجمع النقليات الذي ما فتئ يزحف باتجاه مدينة الزرقاء، وحيث وجدت في زيارتي الأخيرة انه من أجل الوصول الى مجمع النقليات من وسط البلد ? وكانت المسافة آنذاك تبعد خمسة دقائق على الاقدام ? يتعين الآن ? ركوب باص للوصول الى الباص الذي كان ينقلك الى وجهتك. فماذا تمخض عنه الجبل بعد عقد من الزمان يا ترى؟ وماذا تفتقت عنه عقليات مخططي غرب عمان لتطوير ? لا أقول شرقها فحسب بل ? مدينة آخذة بالانشطار على محورها وحيث تتسع الهوة بين مطلع الشمس فيها وبين مغربها؟ بين الزيارة والأخرى ? طالت أم قصرت ? يروعني التسارع الذي تشهده المدينة من تغيرات ملحوظة جلها دراماتيكي، ليس فقط في البيئة المبنية إنما تغيرات منبعها ومآلها الاجتماعية عبثت بها أياد اقتصادية وبعض من بركات التكنولوجيا العالمية واجتياحات رياح التداعيات الاقليمية بما تزجها من طيور مهاجرة. من التغيرات الاجتماعية أن عمان اصبحت تضاهي كبريات المدن العالمية اليوم ولا فخر، ففيها أضحت سرقات الجوال يومها ? وما عهدت المدينة الا الامان سابقاً -، وتشيع ظواهر النصب والاحتيال للحصول على لقمة اليوم. وأخبرني والد صديق عن معاناته اليومية في تنظيف باحة داره من مخلفات السكارى من أبناء الحي، ذلك الحي الذي دأبت منذ نعومة أظفاري على التردد كل صباح الى بيت فيه أبقار يبيع الحليب الطازج. تبدل الحال اليوم، بيعت الأبقار ووصل الحال أخيراً أن أهالي الحب جمعوا تواقيعهم لمنع افتتاح خمارة بين ظهرانيهم. بعد انتهاء زيارة لصديق أصر على مرافقتنا لخارج حدود الحي كيلا نكون على موعد مع أحدهم ممن جنحت به عجلة الحياة فأضحى يتزود بموارد نزواته من عابري السبيل من الأغراب عن الحي. صديق أخي نبيل صاحب بقالة صغيرة في الحي الذي يقيم فيه، أضحى يدفع"الخوّة"من جيبه لأحد أوغاد الحي الذي يزوره حالما يشاء بمطواته المشهرة، وما قامت السلطات المحلية بشيء إذ لم تقع الجريمة بعد فليس هناك دم ينزف أو جرح مميت. وإن شئت أن تعرف مجتمع مدينة ما فعليك بسائقي التاكسي فهم الناطق غير الرسمي باسمها وما يدور فيها. أثناء زياراتي القصيرة يطيب لي التنقل بالتاكسي ففي ذلك فرصة لاستدراك ما فات من خلال أفواه سائقيها ومن دون خطب رنانة أو كلمات مسبقة إذ تأتيك العبارات عفو الخاطر. فمن سائق يشكو اليك ولا يعرفك خيانة صديق العمر له في بضعة آلاف من الدنانير وما عهد به من غدر أو خيانة قبل تطور الحال بالمدينة، وآخر ينفث اليك بقلق اجتماعي مفعم بالتوتر والأسى لما آلت اليه الحال جراء التداخلات الاقليمية وبرامج الفضائيات وفي اليوم الأخير قبل عودتي الى لندن أخذت تاكسياً من شارع الثقافة والأدب بمنطقة الشيمساني في عمان الغربية، وإذا بسائق التاكسي وهو رجل كث الشعر أشيب قد أحنت عوده السنون وعلت وجهه مسحة من الطيبة عبر التجاعيد التي رسمها الزمن بتأن، يقول لي ساخراً والحر غير المعهود يلفح كلينا في ذلك اليوم من شهر كانون الثاني: أتعرف ما اسم هذا الشارع؟ قلت: قال لي صديق إنه شارع الأدب. فرمقني بنظرة باسمة وأردف: نعم هذا شارع الثقافة، فستمر الخنساء من هنا بعد برهة! فقد رأيت المتنبي والسموأل يتسكعان هنا قبل هنيهة. تحسست قدماي بلهفة وشوق الشارع الذي ينحدر من جبل عمان، الدوار الثالث، حيث موقع مكتبنا سابقاً، وتحركت قدماي مع قدمي أخي محمد باتجاه وسط البلد والجامع الحسيني وسوق السكر حيث لا سكر انما خضار وفاكهة. تغييرات طفيفة اجمالاً، فعدا عن أن البريد المركزي أصبح أكثر رونقاً وجاذبية، ثمة تغييرات تلوح في الأفق في مواقع متميزة حيث مقهى السنترال بموقعه الفريد وأخرى مقابل الجامع الحسيني، ولا ندري كيف نستجيب لها، فلننتظر ونرَ. ويطالعك لدى تجوالك في وسط البلد صاحب محل يتسكع أمام محله يدعوك للدخول بلهفة في أسواق جديدة، الطابق الارضي فيها فقط فيه رمق من حياة فيما اسلمت الطوابق العليا ابتداء من الاول الروح الى باريها، والسبب بسيط: عمان الغربية ? بمجمعاتها التجارية غربية الطراز ذات مواقف للسيارات وشارع الجاردنز الذي كان سكنياً أصلاً ? امتصت الحياة الاقتصادية من وسط البلد التاريخي الذي يصعب الوصول اليه الآن مع غياب مجمع النقليات أو مواقف السيارات فآل الى ما آل اليه. "البنك العربي"بالشميساني ذو الواجهات الزجاجية الشطرنجية انقسم انقساماً غير مباشر، كما الخلية تماماً فولد أخاً شقيقاً يقبع مطلاً على مدينة عمان ومعلناً عن ثورة اقتصادية عارمة تزيد عمان الغربية ثراء وشرقها بؤساً وفقراً. بنك ذو طابع معماري ? وكمعظم المباني في عمان الغربية ? يطل متحدياً من كان ينادي بدعوى الاصالة والتراث من معماريي عمان الغيورين على الطابع المحلي. مشاريع جديدة تشهدها عمان الغربية تكرس اقليمية اقتصادية وتعلن عن بصمة هذا المعماري او ذاك صائحين من خلال مبانيهم: نحن هنا. أبراج وفنادق ومحلات تجارية ومشاريع ضمن اطارات العولمة ولكن بلافتات معربة، الماكدونالدز والبرغر كنج والسيفوي وقائمة لا تنتهي من الشركات العالمية المستثمرة التي درست مخطط مدينة وقررت أن زبائنها سيكونون بالتأكيد في غرب عمان، إذ من الواضح أن شرق المدينة مبهدل بما فيه الكفاية لأن يلجأ أحدهم لسد جوعه بساندويتش برغر أو دجاج مقلي من العم كنتاكي بخمسة دنانير هي مخصصات الاسبوع لاطعام أفراد العائلة جميعاً. ويبدو أن احدهم ممن يقطن منطقة عبدون ? أحد أغنى مناطق عمان الغربية ? قد ضاق ذرعاً بمرور سيارته من خلال وادي عبدون المجاور، الذي يرتمي أسفل الجبل راضياً بحظه من هذه الدنيا، فارتأى اقامة جسر"أكروباتي طائر"، يصله بجبل عمان مروراً فوق وادي عبدون على ارتفاع عشرات الامتار ومن دون الحاجة لتدنيس عينيه بمناظر الفقر المدقع. في ناحية أخرى من المدينة ثمة دراما أخرى تدور رحاها، شارع الأردن الجديد وطئ بقدمه على المخيم القابع بحيرة بين جبلي النزهة والحسين فمحا معظمه عن وجه البسيطة. قد يكون قراراً تخطيطياً فيه من الصواب ما فيه وفيه من تعويض المتضررين ما فيه، وقد يبدو أنه يصل وسط المدينة بغربها في وقت يسير، إنما ماذا حصل لمن شردهم الشارع الجديد؟ وهل كفلت قيمة التعويضات مأوى لهم وهم من أقل سكان عمان حظاً؟ وهل المخطط على دراية بما سيحيط بالشارع مستقبلاً أم ترك ذلك لرغبات المستثمرين المتنفذين؟ احدى العائلات انتقلت من"تحت قدم هذا الشارع"لتسكن بجوار شارع الاستقلال على قطعة أرض تشبه قطعة الجبنة المثلثة زاويتها لا تكفي الا لمساحة عرض الدرج، إذ ارتأت هيئة التخطيط اقتطاع المزيد من الأرض المثلثة تحسباً للمستقبل لمصلحة الشارع. هل كان هذا ليحدث لأحدهم في عمان الغربية؟ هذه شذرات من أريج عمان تبثها اطلالات قصيرة لمن عاش فيها ويرقب تغيرات تعلو وجهها عبر الزمن، والأهم من ذلك ما يعلق ببنيتها الاجتماعية من تداخلات. ونتساءل هل من جهة واعية تتنبأ وتتحسب؟ أم هي فقط جهات تخطط السطح الخارجي لبيئتها المبنية بمعزل عن مجتمعها وما يتوالد فيه من مشكلات مستجدة؟ وفي الختام: مدينة عمان لا تحتاج لرومانسيين أو تجريبيين أو حالمين يطلون على شرقها من غربها العاجي، مدينة عمان تحتاج للجنة تخطيط واعية بمشاكلها الواقعية وبشرقها قبل التمسك بمصالح غربها للحيلولة دون المزيد من توسيع الهوة بين ثنائياتها المتناقضة. * استاذ عمارة في جامعة لندن