يخرج فلاديمير بوتين في كانون الأول ديسمبر المقبل، من باب رئاسة الدولة ليعود الى الكرملين من شباك رئاسة الحكومة. ويبدو أنه استنبط هذا الحل بعد فشله في إقناع النواب بضرورة تعديل الدستور بما يسمح له بالترشيح لولاية ثالثة. لذلك اقتضت هذه الخطوة استقالة رئيس الوزراء السابق ميخائيل فرادكوف من منصبه، كي يحل مكانه فيكتور زوبكوف، مساعد بوتين في بطرسبورغ منذ سنة 1992. والمؤكد أن هذا الاختيار مرتبط بشخصية الرجل المجهول الذي أظهر كفاءة عالية أثناء توليه منصب رئاسة الوكالة الفيديرالية لمكافحة غسيل الأموال. ولكنه في المرحلة المقبلة سيمثل دور الوكيل في رئاسة الدولة الى أن تمر ولايته بحيث تتسنى لبوتين استعادة هذا المنصب سنة 2012. ومعنى هذا أن زوبكوف مضطر لأن يبقى في الظل مدة طويلة يساعد خلالها بوتين على تحقيق برنامجه الاقتصادي والعسكري والسياسي، وذلك تنفيذاً لسيناريو مرسوم ومبرمج. ويرى بعض المعلقين أن رئيس الظل قد تبدله السلطة، مثلما بدلت بوتين الذي انقلب على يلتسن، ورماه في العتمة. ولكن التصفيات الجسدية التي طالت خصوم الرئيس تبقى البعبع الذي يردع أي شخص يحاول الانقلاب على بوتين. غداة موت ستالين، ندد خلفه نيكيتا خروتشيف، بأعماله وبحملات التطهير التي نفذها ثم جاء عهد غورباتشوف، المعروف بعهد الانفتاح والمكاشفة غلاسنوست، ليسمح بحرية المناقشة. ولما قرر بوتين إعادة النظر في تاريخ روسيا، دعا المدرسين الى مراجعة حقبة ستالين بكثير من الموضوعية، معلناً أنه لم يكن حاكماً سيئاً كما صوره خروتشيف. وعلى الفور طلبت اكاديمية التربية اجراء مراجعة كاملة لكتب التاريخ المدرسية. وخلصت المراجعة الى التقليل من شأن المجازر والفظائع التي ارتكبها ستالين بواسطة بيريا. وكان من الواضح أن بوتين يريد ترسيخ ذكريات جميلة في أذهان الطلاب، وإزالة كل الوقائع القاسية والقبيحة. وبعد فترة قصيرة صدرت مؤلفات جديدة عن ستالين، تصنفه واحداً من أعظم قادة الاتحاد السوفياتي. في حين يهاجم مرحلة يلتسن ويصفها ب"الضعف والولاء للغرب". المؤرخ الروسي المعاصر اسحق روزنتال، انتقد"كتاب المعلم"وقال إن ما تضمنه عبارة عن توظيف التاريخ لأهداف سياسية، وقال إن كتابة روسيا في عهد بوتين، تظهر في صورة القوة العظمى في مختلف ميادين العلم والثقافة. فالغواصات هي البرهان على عودة روح المنافسة والنتاج العلمي. وزرع علم روسي في القطب الشمالي، يمثل التحدي السافر للتوسع الأميركي. ويدعي هذا المؤرخ أن هذه النزعة القومية الشوفينية، ساعدت بوتين على لجم حرية الصحافة ومقاومة خصومه السياسيين. والسبب أنه فرض ايديولوجية الدولة على مجتمع المعلومات. الملفت أن بوتين أمر هو شخصياً، القاذفات الروسية بأن تستأنف تحليقها في سماء القطب الشمالي، مثلما كانت تفعل أثناء الحرب الباردة. ولا يكاد يمر اسبوع واحد من غير أن تعلن الولاياتالمتحدة أو كندا أو بلدان شمال أوروبا، عن اختراق مجالها الجوي. آخر شهر أيار مايو الماضي أعلنت موسكو عن اختبارها صاروخ س - 24 المتعدد الرؤوس، والقادر على اختراق أي جهاز دفاعي مضاد للصواريخ. ويرمي الاعلان عن تلك العملية العسكرية، الى اثبات قدرة روسيا على استعادة ثقلها الاستراتيجي، كما يرمي الى إيقاظ روسيا من غيبوبتها السياسية التي وقعت فيها عقب انفراط منظومة الاتحاد السوفياتي، خصوصاً أن واشنطن استفادت من هذا النوم العميق، لتقوم بمحاصرة روسيا من طريق توسيع الحلف الأطلسي الى عشر دول كانت داخل المنظومة، وراقبت موسكو بخوف هذا التوسع في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، اضافة الى"الثورات الملونة"في أوكرانياوجورجيا. واعتبر بوتين أنه في حل من"الشراكة الاستراتيجية"مع الولاياتالمتحدة بعدما اختارت مواقع الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ في بولندا والجمهورية التشيخية. ومن أجل فك الحصار، استغل الزعيم الروسي عوائد النفط والغاز ليجدد عملية التسلح، ويحرك مصانع الأسلحة. وعليه خصص أربعة في المئة من الناتج المحلي للتسلح، الأمر الذي رفع الموازنة العسكرية لسنة 2007 إلى 60 بليون دولار. كان بوتين يأمل بأن تورط اميركا في افغانستان والعراق، سيطلق يده في أزمات الشرق الأوسط، ولكنه سرعان ما اكتشف أن واشنطن تمنعه من مشاركتها في حل هذه الأزمات، خوفاً من تسلله الى منطقة تعتبرها واقعة تحت نفوذ مصالحها. لذلك اتجه صوب ايران باعتبارها الخصم المناوئ للولايات المتحدة، والجسر الاقليمي الذي ينقله الى سورية ولبنان وفلسطين، وعلى رغم التناقض العقائدي بين روسيا الاتحادية وجمهورية ايران الاسلامية، فقد تعهد بوتين باستكمال العمل في مفاعل بوشهر النووي ومحطات توليد الطاقة الهيدروكهربائية. كما عقد اتفاقاً لتصدير السلاح بحجم معلن قدره 400 مليون دولار. اضافة الى عقد آخر وقع السنة الماضية بقيمة 700 مليون دولار تتعهد موسكو بموجبه تأمين قوارب خفر السواحل وتحديث الطائرات الحربية من طراز"ميغ"و"سوخوي - 24". ومن المتوقع ان يكون بوتين نجم قمة بلدان حوض قزوين، نظراً الى الأهمية الاستراتيجية التي توليها الدول المشاركة لدور روسيا. وهو دور مزدوج حتى الآن على أساس ان سياسة روسيا تماشي الدعوة الأميركية الى عزل ايران ومعاقبتها على استئناف برنامجها النووي. في حين انضمت روسيا الى منظمة شنغهاي التي تعتبر نفسها الحلف الاقليمي المناهض للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. ويرى الخبراء ان موسكو تستخدم سلاح الطاقة لتهديد اقتصاد الدول المجاورة في حال تعمدت معارضتها، خصوصاً ان شركة"غاز بروم"تخضع لمزاج الكرملين، الأمر الذي يخيف أوكرانيا والمانيا وبلغاريا والمجر وايطاليا. والملاحظ ان شركة"غاز بروم"هددت بتقليص الواردات الى أوكرانيا ما لم يتم تسديد الدين خلال الشهر الجاري. وكان هذا التهديد بمثابة انتقام من الشعب الأوكراني الذي صوت"للحكومة البرتقالية". الثابت ان المستشارة الالمانية انغيلا ميركل، نشطت مع جورج بوش من أجل تبديل هذا الواقع، واسفر نشاطها عن خطة ستنفذ قريباً، تنقل بمقتضاها انابيب النفط والغاز من أذربيجان وكازاخستان الى موانئ المتوسط وتركيا. ومن جهة أخرى، وقعت كل من جورجياوأوكرانيا واذربيجان ومولدافيا، اتفاقاً يقضي بنقل نفط أذربيجان وكازاخستان الى مصب في بولندا. ومن المتوقع ان تنضم السويد وفنلندا المحايدتان الى هذا التجمع. وهذا معناه ان الغرب يسعى الى وقف تمدد نفوذ موسكو عن طريق اسدال ستار حديدي جديد بين روسيا وجاراتها. عندما ورث بوتين سلفه بوريس يلتسن، كانت البلاد تغرق في خضم أزمات مالية وسياسية خانقة. واستطاع الوريث خلال فترة قصيرة، ان يكسب ثقة الشباب والجيش ووكالة الاستخبارات والكنيسة الارثوذكسية. واعتمد بوتين في انطلاقته على هذه المؤسسات التي ابتعدت الى حد ما عن استغلال الانهيار. يشير آخر تقرير وضعته وزارة التنمية الاقتصادية والتجارة، الى زيادة حجم الاستثمارات بنسبة 20 في المئة. وقد شكل هذا الحجم 866 بليون روبل. وبلغ حجم التبادل التجاري الخارجي 158 بليون دولار، اي بزيادة نسبتها 18 في المئة واحتلت روسيا المرتبة الثالثة في العالم من حيث حجم احتياطي الذهب والعملات الاجنبية بعد الصين واليابان. ووصل رقم الاحتياطي منذ شهرين الى 404 بلايين دولار. أعلنت دوائر التحاليل في المجموعات الاستثمارية، ان روسيا قادرة خلال السنوات الأربع المقبلة، على ان تصبح العاصمة المالية الثانية في أوروبا. ويبدو ان بوتين مصر على رفعها الى هذا المصاف، بدليل انه سيحتفظ بمركز القرار حتى في حال انتقاله من رئاسة الدولة الى رئاسة الحكومة. والثابت ان لبنان سيسبقه الى ممارسة هذا السيناريو الجديد! * كاتب وصحافي لبناني