لو أجرينا استفتاء شعبياً من النوع الذي صار ذكره على "الموضة" في هذه الأيام حول اكثر الظواهر التلفزيونية اثارة للغيظ خلال شهر رمضان المبارك الذي ينتهي، على خير والحمد لله، هذه الأيام، لا شك ان"الفائز"سيكون واحدة من الفقرات الاخبارية التي كان يفترض بما تتحدث عنه ان يكون الأكثر انسانية والأكثر ارتباطاً بالشهر الفضيل. ولا شك ان كثراً من القراء عرفوا عما نتحدث. حيث لفتت أنظارهم تلك الدقائق التي كرستها بعض المحطات التلفزيونية في نشراتها الاخبارية، وفي شكل يومي، للحديث عن"أفعال الخير"التي قام بها، غالباً أصحاب المحطات المذكورة او بعض المساهمين الاساسيين فيها. تلك الأفعال التي شهدت مرة تقديم إفطار ليتامى، ومرات أخرى، توزيع هدايا على أطفال فقراء محرومين، ومرة ثالثة تقديم جهاز كومبيوتر الى هذه المدرسة، ورابعة طلاء جدار في ذلك المختبر العلمي. طبعاً فعل الاحسان نفسه والذي يسفر عن دعم من"اعطاهم الله ثروتهم"للذين حرموا ولو من واحد في المليون من مثل هذه الثروة، أمر جيد يثنى عليه وهو مستحب ومفيد للمجتمع. ونعرف ان مجتمعات كثيرة في العالم، تعثر على امانها وعلى بعض التوازن في التفاوت الطبقي فيها، من خلال هذا النوع من فعل الخير ومن التعاضد بين البشر. ولكن في المقابل، لا شك في أن فعل الخير هذا حين يتحول الى استعراض متلفز يفقد كل معناه وبعده الطيب ويصبح شيئاً آخر غير ما يفترض بغايته الانسانية ان تكون عليه. انه يتحول، ليس فقط الى نوع من"تربيح الجميل"اليومي والنازل كالمطرقة على رؤوس الناس أجمعين، بل كذلك الى وسيلة لإذلال الناس واستخدامهم أبشع استخدام في ألعاب السياسة وما شابه. وإذ يقول المرء هذا الكلام، يجول في ذهنه سؤال بسيط: هؤلاء الأطفال المعدمون الذين يؤتى بهم الى ما يسمى موائد الرحمن، وتوزع عليهم بعض المآكل والمشارب كي تتفنن الكاميرات في التقاط صورهم وهم، لبساطتهم وفقرهم، يسدون آيات الشكر والعرفان مقابل اللقيمات البائسة، ما الذي سيبقى في أذهانهم وذكرياتهم من هذا كله بعد سنوات؟ وكيف سينظرون الى الأمر برمته إن وقعت أعينهم في المستقبل على هذه الصور وقد التقطت لهم في استغلال ما بعده استغلال لفقرهم وحاجتهم؟ وقس على هذا، بقية استعراضية أفعال الخير. ترى، ألا يدرك فاعلو الخير الاستعراضيون هؤلاء، ان من الشروط الأكثر بداهة للعطاء ان يتم في تكتم تام، لأنه عدا عن هذا يفقد معناه وانسانيته؟ وألا يدرك هؤلاء -? مهما حسنت نياتهم، والتركيز على استعراضية فعل الخير ينفي في نهاية الأمر حسن النيات - ان كرامة الانسان لا يجب ان تشترى برغيف. لأن الرغيف هو في نهاية المطاف حق المحروم على المجتمع ولا يجدر به أن يكون وسيلة لاستعراض الغني ثروته وخيره العميم من خلاله؟