ليس من عادتي متابعة المسلسلات، فالوقت ضيق وهي، بقدرة قادر وفي زمن عربي استهلاكي، باتت تطول وقد لا نستغرب بعد فترة من الزمن أن تصبح بطول المسلسلات المكسيكية. لكن ظروفاً معينة أجبرتني على متابعة مسلسل"غزلان في غابة الذئاب"لمخرجته رشا شربتجي. لا يعنيني من المسلسل متنه بل هامشه، وأقصد بذلك صورة المثقف التي بقيت هامشية في المسلسل، فعلى مدار العقود الأربعة من القرن العشرين بنيت آمال كبيرة على دور المثقف النخبوي الذي يستمد مرجعيته من الخارج في عقلنة المجتمع العربي بكيفية شاملة ومسترسلة، وهذا ما بشر به المفكر المغربي عبد الله العروي، فقد استثناه دون غيره بلعب دور فكري حضاري في حياة الأمة. لقد كان للمثقف دور حيوي حقيقي في غالبية النشاطات الفكرية في الوطن العربي. صحيح أن العسكريتارية أجهضت تحولات المجتمع واستبدت بالأمور وخنقت إلى حد كبير قوى المجتمع المدني، إلا أن العقود المنصرمة شهدت حيوية إضافية في سلوك المثقف العربي. أسوق هذه المقدمة لأقول أن مخرجة مسلسل"غزلان في غابة الذئاب"غاب عنها كل ذلك الحراك، فانتهى بها الأمر الى رسم صورة بائسة للمثقف في مجتمع يسود فيه الذئاب كما يقول عنوان المسلسل. فجهاد سعد الذي يلعب دوراً هامشياً جداً في المسلسل بحيث يمكن الاستغناء عن صورته، يقدم لنا على أنه روائي وصاحب دار نشر يسكن بيتاً أنيقاً ويملك سيارتين. وهذه ليست حال المثقف السوري الذي يستكتب عادة ببعض الدريهمات. المهم أن جهاد سعد المثقف الموهوب لا يدلي بدلوه في غابة الذئاب التي تحيط به فهو منعزل منكفئ على نفسه يعيش حالاً من"تحديد إقامة"بورجوازية الطابع ولا يكترث إلا بعالمه... فجأة تدخل عليه صديقة ابنته في الثانوية وتستعير منه احدى رواياته. يفرح كثيراً لكنه لا يكترث حقاً إلا حينما تعيد الطالبة الثانوية تلعب الدور ديما بياعة له الرواية وقد سجلت عليها ملاحظات تجعله يهيم بها حباً تخيل ما الذي يمكن أن تكتبه طالبة في ثانوي على روايته. وبوجهها الأرنبي، مع أنها مرشحة لأن تكون خطيبة ابنه، وكأننا في فيلم"جمال أميركي". تكتشف الابنة هيام علاقة والدها بصديقتها، وكذلك يكتشف الابن أخيراً هذا الأمر، وحدها الأم الممثلة نادين تكتشف الأمر متأخرة، فيعيش مثقفنا حالاً من الاكتئاب. لكنه مع هذا يمضي في غيه، ففرصة الحب هذه نادرة. وعلى رغم الفارق الاجتماعي الكبير إذ تتحدر غيداء من وسط اجتماعي فقير جداً، والفارق في العمر والمستوى الفكري، يتزوج منها وتنتهي الحكاية ببطلنا إلى الفشل بعد الزواج من غيداء. ما يلفت النظر كما أسلفت، هو أنه لولا تذكير المخرجة بهامشية المثقف لكان المسلسل يسير من دون الحاجة إليه، فهذا المثقف لا يلعب دوراً في المجتمع، وسلوكه العاطفي أقرب إلى سلوك الرجل المنحرف وغير المبالي بما يجري من حوله. وهنا أكرر: هل تقصّد كاتب المسلسل وكذلك المخرجة أن يقدما لنا هذه الصورة السلبية والهامشية للمثقف في"غابة الذئاب"مع أن بيانات المثقفين وسلوكهم تشير في الواقع إلى تصديهم لكثير من الذئاب التي تنهش البلد؟ إن تعمد رسم هذه الصورة الهامشية للمثقف ينبع من واحدة من حالين: فإما ثمة من أوحى للكاتب والمخرجة برسم هذه الصورة الهامشية للمثقف لغايات ما، وإما ان ثمة غياباً فكرياً عند أصحاب المسلسل يبرر كل هذا التجاهل لدور المثقف في المجتمع السوري والذي لا يمثل جهاد سعد إلا صورة شديدة الهامشية له في هامشية واقع الحراك السياسي والثقافي في سورية. الحراك الذي علينا الاعتراف بأن المثقفين الحقيقيين يلعبون دوراً ايجابياً فيه. آخر مقال أرسله الزميل الراحل الى "الحياة" قبل غيابه المحزن بيومين فقط.