فيما يشهد العراق تدهوراً خطيراً في الوضع الأمني وتتصاعد أعمال العنف الطائفي، لتحصد أوراح آلاف العراقيين الابرياء، ويحتدم الجدل حول خطط أميركية - عراقية لضبط الأمن في العاصمة بغداد، يتواصل بشكل حثيث ومنذ اشهر عدة، وراء الكواليس وبهدوء، بعيداً عن أصوات الانفجارات وصرخات الضحايا، وضع اللمسات الأخيرة على مسودة نهائية لمشروع"قانون النفط"قبل ان يعرض على الحكومة العراقية تمهيداً لتمريره في البرلمان. وكشفت تقارير صحافية أخيراً ان مسودة مشروع هذا القانون، الذي تدخلت الحكومة الأميركية في اعداده عبر مؤسسة استشارية تابعة، سيمنح شركات النفط الغربية الحق في استغلال احتياطي النفط الضخم الذي يملكه العراق، بطريقة ترهن ثروة البلاد النفطية لهذه الاحتكارات على مدى عقود مقبلة وتفرط بحقوق الشعب العراقي، في انتهاك صارخ للسيادة الاقتصادية والوطنية. وعلى رغم تطمينات متكررة من أقطاب الإدارة الأميركية، وممثليها السابقين في سلطة الاحتلال الموقتة، بأن هدف الحرب لم يكن الاستحواذ على نفط العراق واحتياطيه، وهو ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم 115 بليون برميل، وانه سيبقى ملكاً لشعبه، فإن معطيات متزايدة تكشف مجدداً حقيقة هذه النيات. وسيكون ضرباً من الوهم الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة سترضى في نهاية المطاف بالخروج من العراق من دون ان تجني ثمار"استثمارها"وأكلافه الباهظة التي تقدر ب344 بليون دولار حتى الآن حسب تقرير للكونغرس الأميركي، وبكلفة شهرية للحرب تبلغ حوالي 8 بلايين دولار، وهو ما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في مقابلة أخيراً 21 كانون الأول 2006 بقولها ان العراق"يستحق الاستثمار بالأرواح والدولارات الاميركية". في السابع من شهر كانون الثاني يناير الجاري، نشرت صحيفة"اندبندنت أون صنداي"البريطانية، تقريراً واسعاً تصدر صفحتها الأولى تناول مسألة بالغة الاهمية سيتضمنها، كما يبدو، مشروع"قانون النفط"المرتقب حسب مسودة جرى تسريبها، فقد أشارت الى ان بنوده تمثل خروجاً جذرياً عما هو معتاد بالنسبة الى البلدان النامية. فموجب نظام يعرف ب"اتفاقات تقاسم الانتاج"ستتمكن احتكارات نفطية عالمية مثل"بريتيش بتروليوم"و"شل"في بريطانيا، و"اكسون"و"شيفرون"في أميركا، من توقيع اتفاقات لاستخراج النفط العراقي لمدة تصل الى 30 عاماً. وأشارت الصحيفة الى ان المعلومات في تقريرها استندت الى نسخة لمسودة مشروع القانون، تقع في 40 صفحة، جرى تداولها بين شركات نفط غربية في تموز يوليو 2006. ولفت التقرير الى انه لم تطرأ، كما يبدو، تغييرات مهمة على المسودة النهائية. وتسمح صيغة"اتفاقات تقاسم الانتاج"أو"عقود المشاركة بالانتاج"للبلد المعني بأن يحتفظ بملكيته القانونية لنفطه، لكنها تعطي حصة من الارباح الى الشركات العالمية التي تستثمر في البنية التحتية وتشغيل آبار وأنابيب ومصافي النفط. وفي حال تبني هذه الصيغة سيكون العراق أول من يطبقها على صعيد منتجي النفط الرئيسيين في الشرق الأوسط. فالسعودية وايران اللذان يحتلان المرتبتين الأولى والثانية بين مصدري النفط في العالم، يفرضان سيطرة مشددة على صناعتهما النفطية من خلال شركات تملكها الدولة من دون مشاركة أجنبية ذات شأن، وهو الحال ايضاً بالنسبة الى معظم دول منظمة البلدان المصدرة للنفط أوبك. ومصدر المخاوف بشأن تورط العراق في مثل هذه الاتفاقات يكمن في موقفه التفاوضي الضعيف. فقد ينتهي الأمر الى تحقيق"اسوأ نتيجة"حسب أحد خبراء"بلاتفورم"، وهي منظمة مهتمة بشؤون حقوق الانسان والبيئة تراقب الصناعة النفطية في العالم. أصدرت المنظمة تقريراً عن"اتفاقات تقاسم الانتاج"في تشرين الثاني نوفمبر 2005، بعنوان"عقود تقاسم الانتاج... التنازل عن مصدر سيادة العراق". والشروط التي تتحكم ب"اتفاقات تقاسم الانتاج"في مسودة مشروع"قانون النفط"شروط سخية تسمح بتثبيتها لمدة لا تقل عن 30 عاماً. ويبدو انها تسمح لشركات النفط العالمية، بعد ان تسترجع ما انفقته على تطوير الحقل النفطي، ان تحتفظ ب20 في المئة من الارباح، فيما يذهب المتبقي الى الحكومة العراقية. ويشير خبراء في صناعة النفط الى انها نسبة عالية جداً بالمقارنة مع النسبة المعتادة في بلدان أكثر استقراراً حيث تبلغ 10 في المئة في العادة، وخلال فترة استعادة أكلافها، ستتمكن الاحتكارات، وفقاً لهذه الاتفاقات المجحفة، من جني 60 - 70 في المئة من العائدات النفطية، بينما تبلغ النسبة المعتادة حوالي 40 في المئة. وما يثير الاستغراب حقاً ان يسمح لشركة استشارية أميركية تدعى"بيرينغ بوينت"، أستأجرت خدماتها الحكومة الأميركية، بالمساهمة في صوغ مسودة مشروع"قانون النفط"، ويكشف التقرير الصحافي ان ممثلاً لهذه الشركة يعمل في السفارة الأميركية في بغداد منذ أشهر عدة. وتابع تقرير"اندبندنت أون صنداي"ليكشف ايضاً ان ثلاث جهات خارجية اتيحت لها فرصة تمحيص مسودة هذا التشريع"اكثر مما أتيح لمعظم العراقيين". فقد اطلعت عليها الحكومة الأميركية وشركات نفطية كبرى في تموز يوليو الماضي، ثم صندوق النقد الدولي في ايلول سبتمبر الماضي. هكذا، حتى قبل ان تطرح المسودة على الحكومة العراقية والبرلمان العراقي!! لم يصدر، حسب علمي، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، اي تصريح عن ناطق رسمي للحكومة العراقية، أو لوزارة النفط العراقية، ينفي المعلومات التي أوردها تقرير الصحيفة المذكورة. وهي، في حال التثبت من صحتها، معلومات خطيرة لا يمكن السكوت عنها، وتستدعي تقديم توضيح عاجل في شأنها من رئاسة الحكومة العراقية ووزير النفط، ومناقشتها في الحكومة والبرلمان، وفي المنابر الاعلامية، وبمشاركة فعلية من نقابات النفط العراقية، أمام أنظار الشعب العراقي وبمشاركة تنظيماته السياسية والاجتماعية. فالشعب هو المعني قبل اي جهة أجنبية بكل ما يمس ثرواته الوطنية وفي مقدمها النفط. انه انتهاك فظ لحقوق الشعب العراقي السيادية لا يجب التهاون معه اطلاقاً، خصوصاً في الظروف الاستثنائية الحالية، في ظل سيادة وطنية منتقصة واستمرار الوجود العسكري الاجنبي وضعف مؤسسات الدولة، وتدني كفاءة البرلمان الحالي وعجزه عن أداء مهماته، بالإضافة الى الفساد المتفشي الى مستويات غير مسبوقة في كل مرافق الدولة ومن ضمنها وزارة النفط، كما كشف ذلك تقرير مفتشها العام. كل هذه الحقائق والمعطيات تستوجب وقفة عاجلة للتصدي لمحاولة تمرير البنود المتعلقة ب"اتفاقات تقاسم الانتاج"في مشروع قانون النفط، وقطع الطريق على مساعي احتكارات النفط العالمية لنهب ثروة العراق النفطية وإهدارها، التي تمثل المصدر الأساسي لتمويل اعادة الإعمار واستنهاض الاقتصاد الوطني، مستغلة في ذلك واقع الاحتلال والنفوذ الأميركي، وحال الفوضى والانفلات الأمني والعنف الطائفي، وغياب الإرادة الوطنية المستقلة. ارتباطاً بذلك، يجب رفض الدخول في صفقات على حساب مصالح الشعب العراقي وأجيال المستقبل، ورفض تبرير التنازلات المهينة بذريعة الحاجة الى التكنولوجيا ورأس المال لتطوير الاحتياطات النفطية وزيادة حجم صادرات النفط، والنظر في بدائل أخرى موقتة واتفاقات منصفة تضمن تطوير القطاع النفطي وإبقاءه تحت السيطرة الوطنية. * كاتب عراقي