بين وقت وآخر تكتسب بعض وقائع التاريخ عند إعادة فحصها أهمية ودلالة ربما كانت خافية في حينها، ثم أهمية أكبر في الحاضر على ضوء الاستمرار في تكرار الأخطاء نفسها، وبالعقلية نفسها. والحدث الذي أتوقف عنده هنا هو ما سمي تاريخيا"تظاهرات الخبز"في مصر في مثل هذا الشهر قبل ثلاثين سنة، وسماه أنور السادات"انتفاضة الحرامية"متمسكا بتلك الرؤية حتى رحيله. الحدث قد يبدو لأول وهلة محليا، بل وحتى مألوفا بين وقت وآخر في دول عديدة. وشرارة الحدث انطلقت أساسا من قيام الحكومة في مصر برفع أسعار خمسة وعشرين سلعة أساسية، منها الأرز والخبز والسكر والسجائر والغاز وبنزين السيارات... إلخ. الرفع المفاجئ لتلك الأسعار أشعل غضبا شعبيا في مصر عبر عن نفسه في تظاهرات عارمة ضد الحكومة والنظام بما فاجأ الجميع وأولهم الرئيس أنور السادات، وفي بعض الروايات دفعه إلى التفكير بالفرار بالطائرة لجوءاً إلى صديقه الشاه حاكم إيران في حينها. لكن هذا لم يحدث لأن إلغاء زيادات الأسعار وفرض حظر التجول وإنزال الجيش إلى الشوارع أعادت الأمن المختل في الشارع المصري، وهي لحظة استثنائية تماما. فلم تحدث مثل تلك الإجراءات في مصر قبلها مطلقا منذ حريق القاهرة في مطلع سنة 1952. من المنظور التاريخي تكتسب أحداث 18 و19/1/1977 في مصر أهمية مضاعفة انطلاقا من مجموعة حقائق. فأولا: لم يحدث في التاريخ المصري الحديث، ربما منذ ثورة 1919، أن خرج الشعب بمجموع طوائفه معلنا غضبه العارم ضد السلطة الحاكمة، وطوال 48 ساعة متصلة، امتدت فيها التظاهرات الغاضبة من الإسكندرية شمالا إلى أسوانجنوبا، حيث كان السادات يقضي وقته في مشتاه واستراحته المفضلة هناك. ثانيا: ان حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 لم يكن مضى عليها سوى ثلاث سنوات وبضعة اشهر. وهي الحرب التي أعطت السادات شعبية غير مسبوقة في الشارع المصري وحتى في الشارع العربي، بما سمح له أن يبشر الجميع بالسلام مع اسرائيل المقبل على الأبواب ومعه الرخاء الاقتصادي للمصريين جميعا بعد طول تقشف والانفتاح على أميركا والغرب بعد طول مواجهة، والمعونات العربية المقبلة إلى مصر بمليارات الدولارات بعد القفزة الكبيرة في أسعار البترول كنتيجة مباشرة لحرب أكتوبر واستعادة البترول العربي لبعض حقوقه الضائعة. ثالثا: استعداداً لاستقبال مليارات الدولارات الهابطة من السماء صدرت في مصر قوانين جديدة تعطي امتيازات غير مسبوقة للاستثمارات الأجنبية والسماح لأول مرة منذ عقود بوجود بنوك أجنبية في مصر، وأميركية تحديدا افتتحت لها فروعاً في مصر عقب زيارة ريتشارد نيكسون سنة 1974، كأول رئيس أميركي يجيء إلى مصر زائرا. إنها الزيارة التي عبأ أنور السادات لإنجاحها كل أجهزة الدولة المصرية، احتفالا بالرئيس الأميركي الذي بشر بعهد جديد مع مصر عنوانه الاستثمارات الفورية والالتزام بمساعدة مصر على بناء مفاعلات نووية ضخمة لتوفير الطاقة الكهربائية استعدادا لقفزة اقتصادية كبرى تلوح في الأفق. رابعا: استعادة مصر علاقاتها الحميمة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي العلاقة التي أصبحت سلبية تماما منذ سحب البنك الدولي عرضه في سنة 1956 بالمشاركة في تمويل مشروع بناء السد العالي في مصر، الذي كان بالغ الحيوية للاقتصاد المصري تاليا. بعد ذلك أصبح روبرت ماكنمارا رئيس البنك الدولي يكرر زياراته لمصر، ولأنور السادات تحديدا، مبشرا بأن البنك اتعظ من اخطاء الماضي ويسعى لفتح صفحة جديدة من التعاون مع مصر تؤدي بدورها إلى تشجيع قدوم الاستثمارات الأجنبية إلى مصر بمليارات الدولارات. خامسا: ان اتفاقيتي فض الاشتباك اللتين أبرمهما أنور السادات مع اسرائيل بمشاركة أميركية سمحتا لمصر بإعادة فتح وتشغيل قناة السويس وباسترداد بترولها المنهوب في سيناء، وهما موردان حيويان تماما كان الاحتلال الإسرائيلي حرم مصر منهما منذ نكسة حزيران يونيو 1967. فوق هذا وذاك كانت استجدت منذ 1974 تحويلات مالية متزايدة من مئات الآلاف من المصريين العاملين في دول البترول العربي للحاجة إليهم والى غيرهم في المشروعات الضخمة الجارية نتيجة للطفرات في الموارد بعد ارتفاعات متوالية في أسعار البترول. ارتفاعات زادت من إيرادات تلك الدول بنسبة أربعمئة في المئة في سنة واحدة، بما جعل العالم يتحدث عن بزوغ العرب كقوة اقتصادية عالمية سادسة لأول مرة. في مثل هذا المناخ المبشر المتفائل داخل مصر وخارجها، وإضافة موارد جديدة إلى الاقتصاد المصري مع موارد قديمة، ثم موارد طارئة من المعونات العربية، أصبح من الطبيعي أن يتوقع المواطن المصري العادي تحسنا ملموسا في مستوى معيشته، وفرص عمل أوسع أمام شبابه، خصوصا بعد أن قضى مليون شاب مصري معظمهم متعلمون سبع سنوات مجندين للمجهود الحربي، واخذ أنور السادات يبشرهم بالسلام والانفتاح والرخاء في لحظة تجلٍ تودع نهائيا سنوات التقشف وربط الأحزمة. والآن بإعادة فحص تلك الحقائق في 2007 - وبأثر رجعي - فإن كل هذا كان ممكنا فعلا، فقط لو جرى التخطيط للتنمية الاقتصادية المستجدة والملحة بنفس الهمة والمعرفة والإصرار الذي اتسم به التخطيط لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية بالكامل عقب نكسة حزيران يونيو 1967 وصولا إلى حرب تشرين الأول أكتوبر. فبحسن التخطيط والتنظيم وتعبئة الموارد المتاحة كان الاقتصاد المصري نجح في تحمل أعباء الهزيمة في حزيران 1967 ثم إعادة بناء القوات المسلحة بالكامل وخوض حرب الاستنزاف لثلاث سنوات ثم حرب تشرين الأول من دون أن يعاني المواطن المصري ليوم واحد من غلاء أو تضخم أو أزمة في أي من السلع الأساسية. بالطبع لم تكن حياة المصريين في تلك السنوات مرفهة. كان التقشف وربط الأحزمة هو السائد والحصص التموينية من السلع الأساسية مقررة سلفا ببطاقات تموينية تساوي في الأعباء بين الجميع. لكن في نفس الوقت لم تكن هناك بطالة ولا أزمات غذائية ولا سوق سوداء ولا مظاهر استفزازية للمواطن الصابر المتحمل المضحي عن قناعة بالأولويات محل الإجماع الشعبي. كانت هناك مصانع تتسع وإنتاج منتظم وسد عال جنوبأسوان يتم استكماله لضبط مياه النيل وتوفير طاقة كهربائية إضافية لازمة لصناعات عديدة مستجدة... من مصانع الأسمدة في أسوان إلى مجمع الألومونيوم في نجع حمادي و... و... ثم نقفز إلى الارهاصات التي سبقت مباشرة أحداث كانون الثاني يناير 1977 في مصر. لقد بدأت تظهر لأول مرة شريحة مستجدة من السماسرة العشوائيين. سماسرة الاستيراد الترفي والانفتاح ال"سداح مداح"والاستهلاك غير المنضبط والأولويات المقلوبة رأسا على عقب. في البداية كان هذا يجري على استحياء وبعيدا عن الصفحات الأولى. لكن بالتدريج تحول الاستحياء إلى تبجح وتوحش يعتمد بالدرجة الأولى على"الفهلوة"من جانب والعلاقات المستجدة بين المال والسلطة من جانب آخر، بما جعل المصريين يتحدثون علنا عن"القطط السمان"عنوانا لمن لا تعرف بدقة مصادر ثرواتهم المستجدة ولا السر في توجههم بالكامل إلى الاستيراد بدل الإنتاج. وفي شهر تشرين الأول أكتوبر سنة 1976 وجه ممثل صندوق النقد الدولي الذي أصبح مقيما في القاهرة مذكرة سرية إلى وزير الاقتصاد المصري يصارحه فيها بأفكار لازمة لإصلاح مسار الاقتصاد المصري. وخلال أسابيع قليلة تحولت الأفكار إلى طلبات والطلبات إلى شروط وأول الشروط كان رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية مقابل توفير قروض ميسرة لمصر في مقدمها مئتا مليون دولار من البنك الدولي. الطلبات أثارت الفزع، بل الرفض، داخل الحكومة في البداية. لكن الرد كان هو أن علاقة طيبة لمصر مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ستكون إشارة خضراء لقدوم الاستثمارات الأجنبية إلى مصر بما يحول العجز إلى فائض والبطء في التنمية إلى قفزات متتالية والتقشف إلى رخاء. وأصبحت تلك الكلمات هي المسيطرة على أنور السادات حتى في أحاديثه الخاصة، بما جعله يفوض"المجموعة الاقتصادية"في الحكومة، وهي تسمية مستجدة لوزراء المال والاقتصاد برئاسة عبد المنعم القيسوني، سلطة التفاوض والتصرف والتعاون الوثيق مع صندوق النقد والبنك الدولي. وتلقت مصر إخطارا من صندوق النقد الدولي بأن مديره التنفيذي سيصل إلى القاهرة في 17/1/1977 مع خمسة من كبار معاونيه لتدشين المباحثات الهادفة إلى عقد اتفاق طويل الأجل مع مصر. واستعداداً لتلك الزيارة أعدت المجموعة الاقتصادية حزمتها من القرارات فتحمس لها أنور السادات فوراً وكلف الحكومة وقتها برئاسة ممدوح سالم بالشروع في التنفيذ بينما سافر هو إلى أسوان في جنوب مصر مستمتعا بشمسها في ذلك الوقت من الشتاء. كان ممدوح سالم أصلاً ضابط شرطة وأمن. وحينما استشار وزير داخليته وأجهزة أمنه حذره الجميع من رد الفعل الشعبي المتوقع حتما. لكن الأوامر أوامر. وصحا الشعب المصري ذات صباح ليفاجأ بأنه - باسم الانفتاح الاقتصادي والحصول على شهادات من صندوق النقد والبنك الدولي بحسن السير والسلوك - تقرر رفع أسعار 25 سلعة أساسية في التو واللحظة، تبدأ بالخبز والأرز والسكر وتنتهي باسطوانات البوتاغاز وبنزين السيارات. ومن الصباح الباكر يوم 18/1/1977 اشتعلت التظاهرات الشعبية الغاضبة في الإسكندرية، وبسرعة البرق امتدت إلى جميع مدن مصر حتى أسوانجنوبا حيث يستريح السادات في مشتاه المفضل. وفي الرابعة عصرا كان السادات جالسا في شرفة الاستراحة مسترخيا وهو يدلي بحديث إلى صحافية لبنانية. ووسط اندماجه في الحديث عن الانفتاح والسلام والرخاء المقبل على الأبواب لاحظ عمود دخان متصاعدا من بعيد في قلب مدينة أسوان، فتساءل مستغربا: ما هذا؟ ردت عليه الصحافية القادمة لتوها بالطائرة من القاهرة: ربما امتدت التظاهرات إلى هنا. سألها السادات باستغراب: مظاهرات؟ أي مظاهرات؟ خلال دقائق وصل محافظ أسوان فجأة إلى الاستراحة طالبا مقابلة رئيس الجمهورية فوراً. وفي المقابلة ألح المحافظ على الرئيس بما جاء لأجله: عليك بمغادرة أسوان فوراً لأن التظاهرات قادمة إلى هنا تحديداً يا سيادة الرئيس بعد أن اكتسح غضبها كل قوات الأمن. لم يكن هناك وقت حتى ليبدل الرئيس ملابسه، فاستقل طائرة الهليكوبتر القريبة فوراً متجها إلى القاهرة ومن هناك أمر بإعلان الأحكام العرفية ونزول قوات الجيش إلى الشوارع بعد فشل الشرطة في وقف التظاهرات. لكن قبل هذا وذاك تقرر الإعلان فورا عن إلغاء الزيادات في الأسعار. وبعدها بأيام بدأ السادات هجومه المضاد. غير صحيح أنها انتفاضة شعبية وإنما هي"انتفاضة حرامية". غير صحيح أن الشعب ينقلب على النظام وإنما هم حفنة من الشيوعيين الذين تحركهم موسكو. غير صحيح أن الرخاء بعيد وإنما الرخاء قادم تحديدا في سنة 1980. غير صحيح أن الوضع الاقتصادي يحتاج إلى تنمية جادة وإنما فقط إلى المزيد والمزيد من شهادات حسن السير والسلوك من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. غير صحيح أن علاقات السادات العربية محتاجة إلى مراجعة وإنما الصحيح أن كلمة أميركا هي الطريق إلى الأموال العربية. وأخيرا، غير صحيح أن السادات انفصل عن الواقع.. والدليل أنه سيفاجئ الجميع بمبادرة الصلح المنفرد مع اسرائيل. التاريخ موجود حيث هو. لكن ما يبقى هنا ثلاثة أمور. أولا: إن السادات تسلم السلطة وديون مصر تحت السيطرة، بل حتى حرب تشرين الأول أكتوبر وإلى نهاية سنة 1974 كانت كل ديون مصر الخارجية هي 4.2 مليار دولار. وتسلمها ونسبة البطالة في مصر صفر في المئة. الآن - في 2007 - نسبة البطالة عشرين في المئة والديون الخارجية ثلاثين مليار دولار. ثانيا: إن الرخاء الذي وعد السادات بقدومه إلى مصر تأكيدا لم يتحقق في 1980 ولا بعدها، لسبب بسيط هو أن التنمية الاقتصادية الجادة، المعتمدة على الذات أساساً، هي وحدها الطريق إلى الرخاء الحقيقي وليس المفتعل أو الوهمي. ثالثا: إن الانفصال عن الواقع هو أسوأ نذير للسياسة. وعكسه هو فقط المقدمة لفهم هذا الواقع ثم العمل على تغييره. أما الباقي.. فهو تفاصيل. * كاتب مصري