لا يرفع با جي هون رأسه عن كأس الحساء الساخن، المملوء بالطحالب والبهارات، الا ليلقي النكات. هذا الرجل، قليل الكلام، يفاجئك بحس فكاهة لا تعتقد بأنه متوالف مع الشخصية الكورية، التي تتعبأ بالكثير من النمطيات، حول الحزم، والجدية المفرطة المنتشرة بوضوح في ذلك البلد. والحال ان العاصمة سيول تضج أيضاً بالكثير من مظاهر الخروج عن التنميط، وتُدهشك باستمرار بأوجهها الفوّارة بالتجدد، وبتحدي المألوف. على المائدة، وفي حضرة صحافيي الشرق الأوسط، يسرد هون، الذي يدير فريقاً مسؤولاً عن انتاج 55 مليون هاتف نقّال سنوياً، تحمل علامة شركة"ال جي" LG، نكاتاً مرحة، تجعلك تفكر في رحلة تلك الخليويات بين مغرب الارض ومشرقها... وتدور نكاته المفضّلة عن"الموظف الكوري الذي صادف فتاة تكاد تغرق على شاطئ النهر، فأنقذها. وأجرى اسعافات عدّة لها، بما في ذلك التنفس الاصطناعي. وبعد تحسنها، استغربت عدم اقدام ذلك الموظف على تقبيلها، فقال إنه أرسل رسالة الى مكتبه الرئيسي بهذا الشأن ولم يتلق رداً بعد. لذلك اعتذر". فكاهة تعكس تلك الجدية ذاتها. لا تنفي الطرفة حكاية المعجزة الكورية التكنولوجية التي سماها العالم في نهاية سبعينات القرن الماضي"معجزة على نهر الهان كانغ". ولعل شركة"ال جي"هي واحدة من تلك الشركات التي ساهمت مبكراً في صناعة تلك المعجزة. يعرف العرب أيضاً اسماً قديماً لها هو" غولد ستار". وقد اشتهرت الأخيرة بتلك البرادات التي تهدر بصلابة ومن دون توقف، وبذلك التلفاز الذي تنفتح ستائره كأنه شاشة سينما، والذي يتذكره أباؤنا من مرحلة الستينات من القرن الماضي. لكن"ال جي"، التي انطلقت في رحلتها قبل أكثر من ستين عاماً بداية من زيوت البتروكيماويات، تريد أن تصبح الثالثة على مستوى العالم في تصنيع الأجهزة الالكترونية، ومن ضمنها الهواتف النقالة، بحلول عام 2010. في العام الماضي، باع هون، نائب الرئيس لفرع الهواتف، وفريقه، ما قيمته 10 بلايين دولار، فيما بلغت المبيعات الكلية للشركة في شتى القطاعات 35 بليوناًً. دخول"أل جي"المتأخر الى عالم الهواتف النقالة، جعلها تحظى بحصص أقل من منافستها الفنلندية الشرسة، أي شركة"نوكيا" Nokia، خصوصاً في أسواق الشرق الاوسط، حيث استراتيجية التسويق"من الفم الى الأذن"وورد أوف ماوث، كما يقول المسوقون في الاشارة الى الطابع المتكتم والشخصي للصفقات. وقد نالت"نوكيا"حصة تتجاوز الثمانين في المئة من السوق الشرق الاوسطية المتوسّعة باضطراد. كان على"أل جي"أن تفكر في قاموس جديد للتسويق. وفي صبيحة يوم شتوي من أيام سيول، جمعت موظفيها في برج"جي أس"المهيب. وبدا أن الجميع في حالة تأهب قصوى:"علينا أن نخترع تكنولوجيا جديدة ونركز أكثر على ما تفقده اليه هواتف منافسينا". انه"الديزاين"Design، أي التصميم الهندسي. أجمع الكل على أنها كلمة السر. ومن وقتها انكب فريق مؤلف من 5600 موظف يعملون في أقسام الأبحاث والتطوير، إضافة الى مئات غيرهم في كوريا ودلهي وميلانو يعملون في مجال التصميم، على ايجاد الشكل الهندسي الملائم الذي يعطي الشركة قوة في المنافسة العالمية. وتوصلوا الى ضرورة ربط الهاتف النقّال بثقافة الموضة، والأخذ بديناميكيتها وصيحات الاناقة فيها، من دون التورّط في تصاميم تنتهي جاذبيتها بسرعة، وبما يدفع المستهلك للانتقال الى طرازات اخرى من"الشركات المنافسة". ويشير جي كيم، الذي شارك في تصميم طراز هاتف"الشوكولاته"أطلقته الشركة قبل أيام في منطقة الشرق الأوسط الى أنه الخليوي الأول في العالم الذي تعمل خواصه باللمس. ويوضح"نقلنا بنقل تقنية شاشات الكريستال السائل"ال سي دي" LCD من التلفزيونات الى الهواتف النقّالة". في علبة صغيرة سوداء وأنيقة، غلّفت الشركة هاتفها، فبدا كقطعة اكسسوار أنيقة تصلح هدية في أرقى المناسبات. أطلقت اسم"بلاك ليبل سيريز"على فئة ذلك الطراز. وجعلته في متناول أيدي مشاهير النجوم العالميين في الرياضة والموضة والفن. وربطته بمفاهيم العشق واللذة، كما الحال في الشوكولاته. يبيّن تيو بارك، أحد مصممي ذلك الهاتف أيضاً، انه في الرابع عشر من شباط فبراير في كل عام تهدي النساء الكوريات الشكولاته الى أزواجهمن وليس الورود كما في بلادنا، لذلك صممنا هاتفاً ليباع في تلك المناسبة. واما في الرابع عشر من آذار مارس، فيحتفل الكوريون بعيد يسمى"اليوم الأبيض"ويُهدي الرجال الشوكولاته الى الرجال هذه المرة، لذلك أطلقنا هاتف"الشوكولاته البيضاء"ليتلاءم مع تلك المناسبة". خليوي الشوكولاته ومعانيه عربياً الدراسات التي سبقت تصدير الهاتف الى أسواق الشرق الأوسط أظهرت نتائج فاجأت مسوقي هواتف"أل جي"، واربكتهم قليلاً. يتذكر أوه هانبوم، أحد المديرين العالميين للشركة، أنهم فوجئوا بان"الشوكولاته لدى غالبية العرب، كما أظهرت دراساتنا، عكست معاني الدبق والاتساخ وليس الحب والهدايا". لذا، ركّزت الشركة على خواص الهاتف التكنولوجية وليس ارتباطه بفكرة"الشوكولاته"، كما أسقطت كلمة"بلاك ليبل"عن الحملة التسويقية في بعض أسواق الخليج، لكونها ترتبط بأحد أصناف الخمور. "عمدنا للتركيز على التصميم، بحيث تعمل الأزرار باللمس وتكون غير مرئية في حالة انطفائها، بينما تضيء بالأحمر عند التشغيل. جعلنا سماكة الهاتف اقل من 15 ميلليمتراً للمستهلك العربي الكوري يمتلك كفاً صغيرة ولذلك يحتاج الى هاتف أكثر سماكة، وجهزناه ليعمل مع الموسيقى الرقمية من نوع"أم بي ثري" MP3، إضافة الى قدرته على التعامل مع أشرطة الفيديو من نوع"أم بي جي فور"MPG4، مع كاميرا رقمية، غير مرئية، تُعطي صوراً بقوة 1.3 مليون بيكسيل"، يوضح هانبوم. حازت الشركة جوائز عالمية في مجال التصميم. ووجدت أن"الديزاين"، هو سلاحها الأهم في منافسة غريمتيها: الآسيوية، وابنة جلدتها، شركة"سامسونغ"Samsung، والعالمية الفنلندية"نوكيا". ولكن من أين يخرج هاتف"الشوكولاته"وغيره من الطرازات؟ سؤال يحيل مباشرة الى ذلك المصنع المهيب الذي يترأسه الممثل جوني ديب في الفيلم الطريف"شارلي ومصنع الشكولاته". مصنع"أل جي"للهواتف النقالة، لا يحتوي على ذلك الفيض من الألوان، كما الفيلم، لكن حكاياته لا تقل اثارة. حقول الرز ومطامح القوات الاميركية الطريق الى مصنع هواتف"ال جي"مزيّن بحقول الأرز، التي غمرها شتاء أيار مايو المتأخر. حقول خلابة تطمح القوات الأميركية المتمركزة في سيول الى مصادرتها لنقل قاعدتها العسكرية التي تتمركز راهناً في من منطقة"ايتوان"، وسط احتجاجات المتظاهرين الفلاحين. الأرجح، أن تلك الشابة التي وقفت على خط انتاج داخل صالة واسعة في المصنع، حيث يمنع التصوير، لا تعرف الكثير عن خطة الأميركيين. ربما لا تأبه لذلك، كحال زملائها الذين يصل عددهم الى ثمانية آلاف، بينهم 3300 يعملون على خطوط تصنيع الهواتف، اضافة الى 900 من الموظفين غير الرسميين. لا تعرف تلك الفتاة أيضاً، بالتأكيد، أي رجل او امرأة، في أي بلد في أي قارة، سوف يستخدم ذلك الهاتف الذي كانت أناملها الصغيرة تركّب فيه قطعة تكنولوجية منمنمة، في ثوان قليلة، قبل أن يصلها هاتف آخر على سلسلة خط الانتاج الذي لا يهدأ. هو مصنع من أصل خمسة تملكها"أل جي"في كوريا، اضافة الى أخرى في الصين والهند والبرازيل والمكسيك، تنتج جميعها أكثر من سبعة ملايين ونصف مليون هاتف نقال في الشهر. الماركة مطبوعة على حذاء الصبيّة الذي خلعت فردة منه ولوت ساقها، من دون أن تلتفت الى عيون الزوار من خلفها، وهي واقفة على خط الانتاج. الفتيات لا يتبادلن الحديث فيما بينهن، وسيسودهن صمت هائل، لا تتوقعه في مصنع. ويزيد من وطأة الصمت تلك النظافة المعقمة في الأجواء."هذه البقة التي تمشون فيها منظفة عشرة آلاف مرة أكثر من أي بقعة أخرى في مكان تقليدي". لا تفهم تحديداً كيف استطاعت المسؤولة في"أل جي"أن تحسب مستوى النظافة كمياً، لكنك تفهمها حين تقول:"العمال يستحمون باستمرار". وقت الاستحمام، لعله محسوب من وقت العمل، مقسوم الى نوبتين في اليوم لمدة تسعة عشر ساعة. "الجميع يحصل على اجازات وبدل وقت إضافي وتأمين"، تقول المسؤولة بحسم حين سؤالها عن ظروف عمل العمال، وغالبيتهم من الفتيات والنسوة."ارى في عينيك شيئاً من الشفقة. لا تفعل. هن يتقاضين ألفي دولار في الشهر الواحد، فيما معدل الأجور في كوريا هو الف وستمائة دولار للفرد الواحد. لا تقلق. لسن تعيسات"، يقول أحد المرافقين الكوريين من الأصدقاء.