في الأسابيع الفائتة شاهدنا، وقد ساورنا القلق، تفاقماً جديداً في العلاقات المتوترة بين الاسلام وأوروبا، ويجب ان نكون على استعداد لمواجهة موجة كبيرة من الازمات يبدو انها ستتولد عنه. وكما يحدث دائماً في مثل هذه الحالات تظهر الى جانب اتهامات بالمسؤولية عن الازمة الجديدة اقتراحات بالحلول من اجل تجاوزها. وهناك أمل هذه المرة في ان تدفع دروس الماضي رجال السياسة والمثقفين والمجتمعات المدنية للقيام بتحليل موضوعي دقيق للأحداث وللأسباب التي أدت اليها. وأريد في هذا المقال ان اتحدث عن موضوعين يوضحان من ناحية، نقص المعرفة المتبادل في شأن الهوية الثقافية، الذي لم يستطع الحوار حتى الآن ان يتداركه، ومن الناحية الاخرى انه قد آن الأوان لأن نعي ان الخلافات بين الاسلام والغرب هي مرآة لاختلاف المواقف والتقديرات داخل الغرب وفي البلاد العربية والاسلامية نفسها حول اهمية الحوار ومضامينه. وقد يكون ضرورياً ان نقوم بتعميق المناقشات في الداخل وان نقوم في الوقت نفسه بايجاد اشكال عملية وصريحة للحوار. يتصل الموضوع الاول كما قلنا، بمعرفة الآخر معرفة ضئيلة. ومن الصعب ان يكون هناك احترام لقيم الثقافات المختلفة ان كانت هذه القيم غير معروفة، ولا تزال معرفة الهوية الثقافية بما فيها الدينية التي تنبع او تستمد اصولها منها موكولة الى المستشرقين والى دارسي الثقافة الغربية. والمستشرقون هم الكتاب الغربيون من مؤلفي كتب التاريخ والدراسات الخاصة ب"الشرق"أي بالبلاد العربية الاسلامية. اما دارسو الثقافة الغربية فهم مؤلفون من بلاد المشرق أي من العرب المسلمين، فتحوا بعض النوافذ على العالم الغربي وبخاصة اوروبا ويروون ما يحسبون انهم يرونه من خلالها. وبعبارة اخرى فإن مشاعر المجتمعات الاوروبية والعربية والاسلامية وفكرها وسلوكها يتم استيعابها من خلال وسائط ومرشحات. ولا يتم التعرف الى حقيقة كل منهما من خلال النظر والتأمل المباشر وإنما على اساس تفسيرات أو تأويلات رجال الفكر والأدب. فإذا اتفقنا على الدور الايجابي الذي يقوم به المستشرقون والمستغربون للتعرف الى الثقافات المختلفة ونشرها، فإنه يحق لنا ان نسأل عما اذا كان هذا الدور كافياً أم انه غير ملائم وحده للقيام بمساندة حوار فعال وأصيل بين الثقافات. لقد اتيحت لي الفرصة على صفحات"الحياة"لكي اعبر عن رأيي في ضرورة بذل جهد اشمل يهدف الى تعريف"الآخر"بالمنظومات والقيم التي تقوم عليها كل ثقافة من الثقافتين، ولا يزال التناول من جانب النقد الأدبي هو الأكثر إقناعاً ولكن ينبغي ان نجعله أيسر فهما وقبولاً بالنسبة الى الجمهور. ولهذا الغرض تقوم الصحف الايطالية اليوم بطبع ملاحق مع طبعاتها اليومية تتناول موضوعات ثقافية معاصرة او شخصيات تاريخية متيحة اياها لجمهور عريض من القراء. ومن المؤكد انه يجب ان يستكمل التوزيع على جمهور عريض بالتعرف على عدد كبير من الكتب عن حياة عامة الناس وأهوائهم. وهذا هو السبب في ان عمل المستشرقين والمستغربين على رغم قيمته يجب ان يفسح مجالاً اكبر في اوروبا لكتب المؤلفين العرب والمسلمين، ولكتب المؤلفين الاوروبيين في البلاد العربية والاسلامية، وألا تقتصر هذه الكتب على الروايات والدراسات التاريخية والاجتماعية وإنما ينبغي ان تشمل كذلك تاريخ الأدب والنقد الأدبي. وفي الواقع فمن المعروف ان هناك اعمالاً قليلة للكتاب والأدباء العرب المسلمين ترجمت الى اللغات الغربية، وان فرنسا وحدها حتى الآن تنتهج سياسات معقولة لنشر الكتاب العربي وذلك بفضل معهد العالم العربي في باريس. وهناك طرق متعددة لتشجيع توزيع الكتاب العربي في اوروبا، فيتمسك البعض بسياسات الحكومة لدعم الترجمة على سبيل المثال، بينما يتقيد البعض الآخر بالمبادرة الخاصة مثل تخصيص جوائز تشجع دور النشر على نشر الكتاب من خلال وسائل الاعلام المختلفة. وتستطيع مؤسسات عامة ومؤسسات خاصة اخرى ان تتنافس في نشر تاريخ أدب العالم العربي، وبالتالي في استثارة فضول القراء لاستيعاب اعمال الكتاب استيعاباً افضل، ويتمثل هذا في المدارس والجامعات. وتستطيع كذلك الشركات التجارية الكبرى والمصارف ان توجه جانباً من استثماراتها الى الثقافة العربية الاسلامية بأن تدعم الترجمة أو بأن تشتري الكتب لاهدائها الى زبائنها. ولا يخفى الدور المهم الذي يمكن ان تمارسه معارض الكتاب بأن تدعو بلداناً من العالم العربي تميزت حكوماتها تميزاً خاصاً بعملها على تأكيد حرية النقد الادبي وعلى حرية الثقافة عموماً لتكون ضيف شرف في هذه المعارض. ويجب على مؤسسات العالم العربي التي تريد دعم حوار الثقافات ان تعيد توجيه نشاطها بأن تقوم بالتعريف بالقيم تعريفاً افضل وبالتالي بنشر الكتاب بدلاً من عقد هذا الكم الهائل من المؤتمرات التي غالباً ما تكون عديمة الفائدة او قليلتها، وقد فتحت بعض المؤسسات الايطالية اخيراً دروباً جديدة امام التبادل الثقافي وأمام تشجيع التفاهم. واحد هذه الدروب هو الدراسات المقارنة في المجالات القانونية والعلمية والدراسات الانسانية وذلك بهدف التعمق في هذه الدراسات وتعلم احترام التنوع والاختلاف. ويتمثل اول الاهداف في محاولة توسيع نطاق القيم المشتركة الضرورية لمواجهة تحديات التحديث الذي يرمي الى التعلم الافضل والتخصص المهني الرفيع وزيادة الانتاجية الاقتصادية وتحسين ظروف المعيشة وتحقيق الحريات السياسية وحقوق الانسان. وحتى الآن تضم المؤسسة التي انشئت جامعة الازهر وست جامعات ايطالية ولكننا نتمنى ان تسلك النهج نفسه اكاديميات وجامعات اخرى. وما ننشده هو ان نصل بمرور الوقت الى زيادة القيم المشتركة بين ثقافات متنوعة يمكن ان تتحالف لمصلحة مجتمعاتنا ومن اجل التصالح الدولي. اما النهج الثاني فهو يتمثل في اقامة مكتبة متعددة الوسائط من طريق الكومبيوتر يمكن ان تضم الكتب التي يتم الاتفاق على ادخالها من كتب المكتبات القومية ودور المحفوظات في الدول الاوروبية والمتوسطية. وعند الانتهاء من انشاء المكتبة وتجهيزها سيتم ربطها عبر الانترنت بمجموعة من المدارسة والجامعات التي تختارها البلدان المشتركة بحيث يمكن الاطلاع على جانب كبير من المعارف المتفق عليها واتاحة اشكال من الاتصال والتبادل بين النظم التربوية. وفي الحقيقة يحتاج التعريف بالهوية الثقافية الى وقت طويل. ولكن الواقع الذي تعيشه العلاقات بين الاسلام واوروبا يتطلب سرعة في تعديل المسار تعديلاً يقلل من عوامل التوتر ويبعد شبح الصدام بين الحضارات. وينبغي بأن نعترف ان المبادرات التي ظهرت حتى الآن مثل تحالف الحضارات والبيانات الصادرة لمصلحة الحوار لم تنجح في استقطاب المجتمعات المدنية والرأي العام، مما جعل التطرف اليوم اقوى وأشد مما كان عليه في الماضي. وهنا اريد ان اتوقف عند موضوعنا الثاني. فالتحليل المتأني للازمة الاخيرة الناجمة عن نشر رسم فيه اساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يجعلنا نتبين أن ثمة نقاشاً حاداً بدأ في الدول الغربية ذاتها حول الحدود الفاصلة بين حرية الصحافة واحترام رموز الاسلام وقيمته. والهدف من هذا النقاش هو وضع حد لا يمكن تجاوزه بين التهكم السياسي والاساءة. والامر المهم هو ان هذا النقاش امتد الى تناول المبالغة والافراط في علمانية المجتمع الحديث ومخاطر انهيار الاخلاق والسلوك اللذين يرتبطان به. وعلى رغم اختلاف مواقف علماء الاجتماع والقانون ورجال الادب والسياسة في هذه اللحظة فان ترسيخ المبادئ والقيم في هذه المناقشات من شأنه ان يزيد الوعي لدى الرأي العام بضرورة ان يكون صوته مسموعاً، سواء من خلال وسائل الاعلام والمؤتمرات العامة أو عند انتخابه لممثليه في المؤسسات الديموقراطية المختلفة. وأدى الجدل الذي جرى في ايطاليا في اعقاب الرسوم الكاريكاتورية التي تناولت النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى استقالة وزير كان يريد طبع هذه الرسوم على قميص تي شيرت. ودانت احزاب الغالبية والمعارضة بالاجماع مبادرة هذا الوزير. واستنكر كل من رئيس الجمهورية كارلو ازيليو تشامبي ورئيس الوزراء سيلفيو بيرلوسكوني وأدانا هذا السلوك وأكدا التزام ايطاليا باحترام المعتقدات الدينية وتشجيع حوار الثقافات واللقاء بينها. واتسع الموقف الحازم الذي اتخذ ضد من كان يزمع على نشر الرسوم الكاريكاتورية اتساعاً كبيراً بين طبقات عريضة من المجتمع الايطالي الذي أظهر استياءه من الاساءة التي اقترفت بنشر هذه الرسوم. وينبغي ان نذكر ان اعلى سلطات الكنيسة الكاثوليكية اعلنت موقفها المؤيد لاحترام وسائل الاعلام للقيم الدينية ورموزها، والمؤيد كذلك لاستعادة المجتمع الحديث الابعاد الروحية. وهكذا عادت الاسس الاخلاقية والدينية التي يجب ان تلهم اعمال البشر وتوجهها لتحتل مكانها في النقاش، وذلك من اجل التوفيق بين الحريات المدنية والمقدسات التي تنطوي عليها القيم الدينية بالنسبة الى جانب كبير من شعب اوروبا. ويدعونا هذا كله الى ان نتبين كيف ان ازمة مفتعلة بين اوروبا والاسلام يمكن ان تؤدي الى مشاعر مشتركة عامة بين اهل الكتاب، أي بين أتباع الاديان السماوية، للدفاع، ليس فقط عن قدسية القيم الدينية وانما ايضاً عن اخلاقيات المجتمع والسوق والعمل، وعن الانشطة الانسانية كلها حتى تتوافق مع بعد روحي وبعد منصف للسياسة والعلاقات الدولية. ومن المهم في كل الاحوال الا تؤثر تأثيراً سلبياً في النقاش الدائر في اوروبا عوامل خارجية مثل اعمال العنف التي قد تؤدي الى ترسيخ الصدام بدلاً من ان تساعد على التلاقي حول القيم المتفق عليها. ويبين التاريخ ان العنف يزيد الخوف والتوجس وعدم الاطمئنان والجوء الى استخدام القوة. وقد أكدت الدول العربية اخيراً، وهي على حق، ان عملية الاصلاح التي حثها الغرب عليها، يجب ان تكون نابعة من ظروفها وان تكون انطلاقاً من ارادة كل دولة وبناء على قراراتها. ويتعلق هذا خصوصاً بزيادة الديموقراطية التي يجب ان تعكس القيم الثقافية للمجتمعات العربية وخصوصياتها. وهذا امر جيد، احتراماً للاختيار الحر للشعوب والحكومات. والغرب وبخاصة اوروبا، مشغولان بالتفكير في الحد الفاصل بين حرية الصحافة واحترام القيم الدينية. وقد يؤدي العنف ضد الغرب الى وقف هذا التفكير والى دفعه لاتخاذ مواقف انغلاقية. وقد دان الكثيرون رسوم الكاريكاتور التي تناولت النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوا الى ضرورة التلاقي مع الاسلام من اجل القيام بعمل مشترك لما فيه مصلحة الجنس البشري والالتزام بالأخلاق في السلوك الانساني، والامل معقود على ان ينضم عدد متزايد من البشر الى هذه المهمة الجليلة، وان يؤدي هذا الى تشجيع الحوار الحقيقي بصفته جسراً للصداقة والتضامن. حان الوقت كي تقوم الغالبية الساحقة التي تؤيد التعايش البناء بين المعتقدات المختلفة باستعادة المبادرة لعزل الذين يريدون تحت ذرائع مختلفة ترك الباب مفتوحاً أمام الصدام والعنف. ويمكن ان تشارك الأممالمتحدة بكل تأكيد، في تبني قرار يؤكد على احترام كل الاديان ويمنع الاساءة الى قيمها ورموزها وذلك حتى نهدئ الأنفس. لكن المصلحة الحقيقية تبنى يوم بعد يوماً من طريق التصرفات الملموسة لأناس ينتمون الى معتقدات مختلفة بحيث يجب عليهم ان يتعارفوا في صورة افضل وان يحترم بعضهم بعضاً. ولا يتم هذا نتيجة وثائق واعلانات بل نتيجة عمل دقيق تقوم به مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية. * سفير ايطاليا في مصر.