عقدت مكتبة الإسكندرية أخيراً، مؤتمراً دولياً حمل اسم"عالمية ابن خلدون"ضمن الاحتفالية الكبرى التي تنظمها المكتبة لمناسبة مرور ستمئة عام على رحيل المفكر العربي"ابن خلدون"والذي استمر لمدة ثلاثة أيام، بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة ودار الكتب المصرية وهيئة قصور الثقافة ومشاركة عدد كبير من علماء الاجتماع العرب والدوليين، إضافة الى لفيف من الأعلام الثقافية والمفكرين السياسيين. وناقش المؤتمر الإسهامات الحضارية والفكرية لابن خلدون في مجالات المعرفة كافة، ودورها في النهوض بمنظومة الفكر الإنساني، وكيف أنها ما زالت نبراساً يهتدي به كل مفكري العالم. وقام بافتتاح المؤتمر كل من: الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية، والدكتور جابر عصفور أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، والدكتور كمال حجر الأستاذ بجامعة الإسكندرية والذي ألقى كلمة نيابةً عن الدكتور حسن خير الله رئيس الجامعة. وتناول الدكتور إسماعيل سراج الدين في كلمته وضع ابن خلدون الخاص بين المفكرين الذين ساهموا في تشكيل الضمير المعاصر، حيث تميز ابن خلدون باتساع نطاق تأثيره في عدد من المجالات والعلوم، فهو يعد مؤسساً لعلوم الاجتماع والدراسات السياسية والتأريخ كما نعرفه في عصرنا الحاضر كمجال لتحليل الأحداث وليس لسردها بصورة غير عقلانية. وأبدى الدكتور سراج الدين سعادته باستضافة مكتبة الإسكندرية للمؤتمر الذي يكرم العلامة ابن خلدون، مؤكداً ان هدفها التقاء الفكر والمعارف المختلفة، فالمكتبة هي نافذة مصر على العالم ونافذة العالم على مصر. وأشار الدكتور عصفور الى عدد من الملاحظات، أولها أن مؤرخي التراث ومنظميه يتفقون على وضع ابن خلدون في التراث العربي، حيث ينقسم التراث الى تيارات عدة وهي: التيار العقلاني النقدي والتيار العلمي التجريبي والتيار الصوفي والتيار السلفي. وكانت العلاقة بين هذه التيارات علاقة تكامل وتصارع، وشدد عصفور على ان إنجاز ابن خلدون كان انجازاً استثنائياً، فقد جاء في القرن الثاني حيث الخراب والظلام وغاص في أعماق عصره وانتقل الى جوهر الأمور وليس الظاهر والملاحظات السطحية، وهذا ما جعل نص ابن خلدون ينطبق على عصره وعصرنا والعصور المقبلة. وتتصل الملاحظة الأخرى بفكر ابن خلدون المكاني، فكان يشعر أنه لا ينتمي الى قطر بعينه ولكنه ينتسب الى المعمورة الإنسانية كلها، والتي كانت تدفعه الى مزيد من المعرفة. أما الملاحظة الأخيرة التي اختتم بها حديثه فكانت تخص إشكال ابن خلدون، فالوضع المهزوم الذي عاش فيه يجعلنا نتأمل الازدواجية في آرائه الموجودة في النص، وهذا المأزق في عصره لم ينته في عصرنا، فنحن نعيش بين مطرقة الجماعات المتطرفة وسندان السلطات المتسلطة، وبالتالي فلا نجد التكامل في كتابات ابن خلدون مثلما نجده عند الفلاسفة الأوروبيين الذين عاشوا في ظروف أفضل من ظروف ابن خلدون، فقد عاش ابن خلدون تحت وصاية سلطان سيئ ولكنه اضطر أن يحاور ويناور لكي يكمل عمله ولكن مع ذلك ظل هذا العمل ناقصاً ولذلك أصبحت مقدمته في وادٍ والتاريخ في وادٍ آخر، فمأزق ابن خلدون أوجد توتراً في شخصيته، فهي ليست شخصية سطحية ولكنها متغيرة المستويات وثرية من حيث اتجاهاتها وآرائها، وبالتالي استطاع أن ينفد من هذه الورطات ووصل الى حلول مبهرة جعلته مفكراً استثنائياً وعالمياً، وهذا ما جعله محط أنظار كثير من الدارسين في كل أقطار العالم. وشهد المؤتمر مجموعة من الأبحاث الثرية التي تناولت حياة ابن خلدون من جوانب مختلفة. فقدم عبدالواحد ذنون طه، عميد كلية التربية في جامعة الموصل، ورقة بحثية بعنوان"رؤية رحالة شمال أفريقيا للحضارة العربية الإسلامية في عصر ابن خلدون"حيث تطرق الى الدوافع التي كانت وراء الرحلات، وأهمها الحج، وأشهر الرحلات الحجازية، ثم الرحلات العلمية والسياسية والسياحية والتجارية. وسعى لتقديم رؤية واضحة عن تصورات الرحالة للحضارة العربية الإسلامية في عصر ابن خلدون ورؤيتهم للأوضاع السياسية في المنطقة وعلاقتهم بالحكام ومنهم ابن بطوطة وابن الحاج النميري وخالد البلوي وابن رُشَيد الفهري وابن الخطيب. وتناولت ورقة الدكتور محمود علي مكي، أحد أعلام الدراسات الأندلسية في مصر والعالم،"ابن خلدون: أصدق شاهد على عصره"تاريخ العلامة الكبير في لمحات سريعة وقفت على أهم المناصب التي تولاها وعلاقته بالسلاطين والملوك. واستعرض د. حسن حنفي، نائب رئيس اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية، من خلال قراءة معاصرة لمقدمة ابن خلدون، رؤى ابن خلدون في الدولة والحتمية الجغرافية والدين والعصبية، ليثير في النهاية تساؤلاً: هل استطاع ابن خلدون أن يخرج عن الأشعرية أم أنه ظل أسيراً لها؟، مشيراً الى اعتماد ابن خلدون على الموروث الإسلامي كمصدر تاريخي للمقدمة وتعامل مع الموروث الفلسفي بروح نقدية، فهو أقل اعتماداً على النصوص الدينية حيث اعتمد على الأحاديث النبوية أكثر من الآيات القرآنية. كما تطرق د. قاسم عبده قاسم، أستاذ تاريخ العصور الوسطى في جامعة الزقازيق، الى علاقة ابن خلدون بالمؤرخين المسلمين، وكيف تمكن المؤرخون المسلمون الذين عاصروه وتتلمذوا على يديه من أن يستوعبوا الأفكار التي ضمتها المقدمة الشهيرة. وحاول الوقوف على أسباب عدم قدرة المؤرخين الذين تتلمذوا على أيدي المؤرخين الأجانب على قراءة ابن خلدون من دون انحيازات ثقافية. وكان د. أحمد العبادي، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية قدم دراسة"ثلاثة رموز عالمية مغربية في القرن الثامن الهجري"، ناقش فيها ظهور شخصيات علمية بارزة في هذه الفترة الزمنية التي عاش فيها المغرب والأندلس الأزمات والمحن، هي: ابن خلدون وابن الخطيب وابن بطوطة. وأشارت ورقة"بابا الفاتيكان والإسلام وتأويل ابن خلدون عند الدارسين العرب"التي قدمها د. فؤاد شهاب، أستاذ قسم العلوم الاجتماعية في كلية الآداب - جامعة البحرين، الى التقارب بين الآراء التي جاءت في تصريحات البابا الأخيرة وبين بعض المستشرقين وبالتحديد"لابيكا"واستشهد بنظريات لابن خلدون التي وضعت الإسلام في مكانه الصحيح. كما قدم د. محيي الدين قاسم، ورقة بعنوان"نظم العمران: موقع السياسة من الظاهرة العمرانية"، وترصد الورقة جهود المفكرين العرب في قراءة وإعادة إنتاج ابن خلدون من خلال تيارين: يقتصر الأول منهما على رؤية ابن خلدون في حدود الأبعاد المعرفية والتاريخية لكتاب العبر، بينما يستند الثاني الى مقولة ابن خلدون ذاته حول استنباطه لعلم العمران ووضع قواعده، تاركاً للآخرين حرية البناء عليها. ورصد تلك الرؤى من خلال ثلاث مقدمات أساسية هي: صلاحية تحليل ابن خلدون للتحول الى نماذج معرفية قياسية من ناحية، وضرورة تناول الظاهرة العمرانية ككل في مقوماتها التكوينية وفاعليتها الحركية وتسكين كل مفهوم وظاهرة فرعية في موقعها المناسب داخل الإطار العمراني، وأخيراً ان السياسة عبر دورها في نظم العمران هي أكثر المسائل تعبيراً واستظهاراً لهذا الإطار العمراني، فهي حاضرة وضاغطة ومحشورة في كل مبدأ وفعل وحركة. كما طرح د. عبدالهادي التازي، عضو أكاديمية المملكة المغربية، في ورقته"ابن خلدون والعلاقات الدولية"، اهتمام ابن خلدون بالتاريخ الدولي لمنطقة البحر المتوسط وعلاقات الدول المتساكنة حول الحوض سواء كانت إسلامية أم مسيحية ليؤكد اهتمام ابن خلدون بالأحداث الكونية النافذة عندما نادى بفكرة وحدة العالم الإسلامي بين المشرق والمغرب. وخلص الباحث الى ان ابن خلدون كان منفتحاً على العالم، وعمل على تقريب العناصر المتساكنة فيه إضافة الى أن ما قدمه من مؤلفات جليلة برهنت على أن ما يكتبه"الأفارقة"لا يقتصر فعله على الأفارقة وحدهم ولكنه يفيد سائر الجهات في مختلف أطراف القارات الخمس. وكان ذلك هو الموضوع الذي طرق بابه أيضاً الكثير من الدراسات، ومنها دراسة الباحث أحمد صادق، التي جاءت بعنوان"العلاقات الدولية في فكر ابن خلدون". كما ركزت دراسة د. نادية مصطفى، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة القاهرة، التي جاءت بعنوان"أفكار حول إسهام التراث الخلدوني في الفكر الدولي والنظرية الدولية"، على عبقرية ابن خلدون المتجددة من حيث انه وضع يده على بيت الداء، وهو ان الانهيار يبدأ من الداخل وأن التأثير المادي والقيمي لا ينفصلان، وهما أمران ظلا يستحكمان بتصاعد تدريجي في فكر الخلف لابن خلدون من فقهاء الأمة الذين تصدوا لمشاكل انحدار الأمة، وذلك في ظل عصور تصاعدت فيها التأثيرات الخارجية على عكس عصر ابن خلدون. وتقوم المكتبة بالإعداد لإصدار نسخة عربية مترجمة من كتاب Ibn Khaldon: The Mediterranean in the 14 th century, Rise and fall of Empires. وذلك كجزء من تلك الاحتفالية العالمية. وقامت مكتبة الاسكندرية بإصدار كتاب مصور بعنوان"مع ابن خلدون في رحلته"، قدم له مدير المكتبة وحرره د. خالد عزب، مدير ادارة الإعلام فيها، بالاشتراك مع د. محمد السيد. حيث يصور الكتاب قصة حياة ابن خلدون، مولده ونشأته... حياته في قصور المغرب والأندلس... قدومه الى مصر واضطلاعه بالتدريس في مدارسها ومساجدها... لقاءه بالغازي المغولي تيمورلنك تحت أسوار دمشق... علاقته بمن عاصروه من أعلام الفكر الإسلامي ومن حكّام الإسلام... الأماكن التي ارتبط بها وشهدت تألق نجمه بخاصة في مصر وفي قاهرة المعز حيث قضى ابن خلدون ربع قرن ودفن هناك. كما أصدر مركز المخطوطات التابع للمكتبة كتيباً بعنوان"كتابة ابن خلدون"يعرض ما يسمى بتدوينات ابن خلدون، أي ما كتبه ابن خلدون بخط يده، وهي أعمال لم تنشر ولم تشتهر، ولكنها باب كبير للتعرف الى شخصية هذا الرجل واهتماماته. ويشرح هذا الكتيب الذي يقع في سبع صفحات عملين فريدين من هذه التدوينات: الأول كتاب خطه ابن خلدون في بداية حياته، والآخر إجازة كتبها في أواخر عمره.