مرة أخرى عرب ويهود وأوروبيون . معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أسّسه مارتن انديك لخدمة اسرائيل، غير ان انديك كان معتدلاً بالمقارنة مع سلفه روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي للمعهد الآن. ولعلّ دنيس روس، منسّق عملية السلام السابق، ومدير المعهد الآن، هو الوحيد من بين جميع الذين عملوا في المعهد أو مرّوا به الذي أجده معتدلاً ومعقولاً على رغم ارتباطه العفوي باسرائيل. ما سبق مقدمة، فقد فوجئت أخيراً بمقال عنوانه"الهولوكوست والأبطال العرب"كتبه ساتلوف الذي أدرجته دائماً في خانة المتطرفين، يتحدث في شكل موضوعي عن دور غير معروف للعرب في مساعدة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. باختصار شديد، ساتلوف يبدأ بالحديث عن العرب الذين ينكرون المحرقة. وبما انني شخصياً لا أنكر المحرقة، وأحتجّ دائماً على العرب الذين ينكرونها، فإنني أستطيع ان أقول انني لا أفهم الحساسية ضد الإنكار أو التشكيك، وتحديداً ضد رفض طرح الموضوع، مع ان الحجاب مطروح، وكل مقدسات المسلمين، بل إن نبيّهم موضع جدل تحميه حرية الكلام التي لا تحمي الحديث عن المحرقة. ساتلوف يقول ان المعلومات عن دور العرب في حماية اليهود قد لا تغير مواقف الراديكاليين العرب"الا انها قد تجعل الهولوكوست لبعض آخر مصدر اعتزاز يستحق ان يتذكروه، بدل التجنب او الإنكار". المقال يتحدث عن النازيين والمتعاونين معهم في شمال افريقيا من الدار البيضاء الى طرابلس الغرب، وحتى القاهرة، بين 1940 و1943، ويقول ان واحداً في المئة فقط من يهود شمال أفريقيا، أو حوالى أربعة آلاف الى خمسة آلاف شخص، ماتوا تحت سيطرة النازيين في شمال أفريقيا مقابل أكثر من نصف يهود أوروبا، أو الملايين الستة في المحرقة. وفي حين ان المقال يسجل وجود متعاونين عرب ومخبرين دلوا الجنود النازيين على بيوت اليهود، فإنه يسجل أيضاً ان سلطان المغرب وباي تونس ساعدا المواطنين اليهود في بلديهما، ثم يورد أمثلة فردية عن أبطال من المسلمين المحليين أخفوا اليهود عن النازيين مثل سي علي سكات وخالد عبدالوهاب في تونس، وسي قدور بن غبريت، إمام المسجد الكبير في باريس. وأعتذر اذا وجدت شيئاً إضافياً يفتخر به العرب في موضوع انقاذ اليهود. فالذين فعلوا كانوا لا بد يعرفون ان فلسطين خارجة من ثورة 1936-1939 خوفاً من استيطان اليهود في البلاد. كنتُ قرأت مقال ساتلوف وقرأت بعده عرضاً طويلاً بعنوان"الرعب المقدس"لكتاب"حرب الله: تاريخ جديد للحملات الصليبية"من تأليف كريستوفر تييرمان، كتبه ايمون دافي، ونشرته مجلة"نيويورك ريفيو اوف بوكس"في عدد يحمل تاريخ 19 الجاري. الحملة الأولى انتهت بسقوط القدس في 15 تموز يوليو 1099، وكانت هناك حملات أخرى في 1140 و1188 و1201 و1217. واسترد المسلمون القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وهو كردي مولود في تكريت سنة 1187. الوحشية التي رافقت الحملة الأولى تكاد تكون أسطورية، فقد كان الصليبيون يقطعون رؤوس أسراهم المسلمين ويقذفونها بالمقاليع من فوق الأسوار الى الأهالي المحاصرين. غير انني أكتب مركِّزاً على ما أصاب اليهود مع المسلمين، فالصليبيون دخلوا المدينة وذبحوا كل من وجدوا فيها، وأحرق معظم اليهود داخل كنسهم، وأرغم المسلمون على نقل جثث الضحايا قبل ان يقتلوا بدورهم. وانتهى الصليبيون في حملتهم الرابعة باجتياح القسطنطينية ونهبها وتخريب معالم المسيحية فيها. الكتاب يشير الى دور الراهب او الناسك بطرس في تحريض الأوروبيين على انقاذ القدس، في العامين 1095 و1096، ويقول ان العوارض الجانبية لهذا التحريض ان موجة لاسامية اجتاحت أوروبا، خصوصاً في حوض الراين. فالمسلمون عدو بعيد، غير ان هناك عدواً منتشراً في أوروبا كلها هو الجماعات اليهودية، واذا كان اليهود صلبوا المسيح، فلماذا يسافر الأوروبيون بعيداً لمواجهة المسلمين"وأمام أعيننا اليهود وهم أكثر سلالة في العالم عداء لله". وأترجم حرفياً:"الغوغاء في طريقهم الى الاراضي المقدسة قتلوا اليهود، ودنّسوا مقابرهم وأحرقوا الكنس في المدن حيث مروا... وعلى رغم عدم وجود شيء في المذهب المسيحي يبيح قتل اليهود، فإن رغبة الانتقام كانت الغالبة. وقد ندّد المطارنة المحليون بالمذابح من دون طائل، ولجأ يهود ماينز الى قصر المطران لحمايتهم، غير ان المطران هرب من غضب الغوغاء تاركاً اليهود يلقون مصيرهم، فدخل عليهم الغوغاء وقتلوهم جميعاً"وارتكب رجال كل حملة لاحقة مذابح مماثلة بحق اليهود. ما أريد ان أسجّل اليوم للعرب واليهود انطلافاً من المقال وعرض الكتاب ان التاريخ الدموي المتبادل يظل نقطة في بحر المذابح الأوروبية لليهود منذ الحروب الصليبية وحتى المحرقة النازية، ثم فلسطين حيث أرسل الأوروبيون اليهود الناجين الى أرض ليست لهم، ووضعوهم وسط شعوب لا تريدهم ليستمر القتل، أو ليقتتل اليهود والمسلمون ويرتاح الأوروبيون من السلالتين. مع هذه الخلفية أرى انه لا يزال هناك متسع كبير للاتفاق، واذا قامت دولة فلسطينية ضمن حدود متّفق عليها، مع تسوية لحقّ العودة، فإن لا شيء يمنع قيام علاقات طيبة جديدة وتعاون يفيد الطرفين. وأختتم بمثال واحد عن جهد بعض اليهود في اسرائيل دفاعاً عن الفلسطينيين، ربما من نوع رد الجميل لعرب شمال افريقيا. ففي الاخبار ان منظمة حاخامات من أجل حقوق الانسان تدافع عن المزارعين الفلسطينيين ضد الجيش الاسرائيلي والمستوطنين، وتساعدهم على الزراعة وجني محاصيلهم. ويرأس هذه المنظمة الحاخام اريك اشرمان، وهناك متطوعون يهود كثيرون يساعدون الفلسطينيين. ربما كان الامر ان الوضع ليس ميؤوساً منه بالقدر الذي توحي به الأخبار كل يوم.