بناية صغيرة في شارع هادئ من شوارع العاصمة الاردنية، مكاتب هادئة ونظيفة على الجانبين تجعلها اشبه بأي مكان عمل عادي."غرفة الطبيب"في الطابق العلوي تنبئ بأنه طبيب اطفال، لوحات ملونة، ولعب صغيرة موضوعة في الاركان، والجو في شكل عام يبعث على البهجة. لكن"غرفة الكشف"الملحقة بالغرفة الرئيسة تنبئ بشيء ما مناهض للطبيعي... سرير الكشف صورة طبق الأصل من الأسرة المستخدمة في العيادات المتخصصة في أمراض النساء والتوليد. وما يؤكد الجو"غير الطبيعي"في الغرفة جهاز طبي مثبت عند اسفل السرير يبدو أنه شكل متقدم من اشكال المناظير. وعلى رغم ذلك، فإن الغرفة حافلة بالدمى واللعب الصغيرة واللوحات الطفولية المعلقة على الجدران. يدخل الطبيب المختص، وجهه بشوش، وابتسامة"غير مفهومة"تعلو شفتيه. إما أنها ابتسامة السعادة والمرح، أو أنها ابتسامة تعكس خبرات مريرة شهد عليها صاحبها ومكنته من التأكد من أن الحياة التي نعيشها بلغت درجة من القسوة والوحشية التي تتطلب علم هذا الطبيب وحنكته ومثابرته لانقاذ ما يمكن إنقاذه. الطبيب هو هاني جهشان الطبيب الشرعي وأحد مؤسسي شبكة"المهنيون العرب للوقاية من اساءة معاملة وإهمال الاطفال". البداية لم تكن مبشرة بالخير أبداً، صور فوتوغرافية ملتقطة لأطفال تم تمويه اعينهم بينما تظهر آثار اعتداء بشعة على مناطق عدة من أجسامهم. والمفاجأة التي اخرست الجميع صورة رضيع لم يمض على وجوده في الدنيا اكثر من ستة اشهر... لقد تم الاعتداء جنسياً على هذا الرضيع. بدا واضحاً حينئذ سر"الابتسامة الغامضة"على وجه الدكتور جهشان، إنها ابتسامة توقف عن الاندهاش تحت وطأة هول ما رأى. هذا المركز هو"وحدة حماية الاسرة في الأردن"، احدى التجارب الرائدة في العالم العربي التي ثارت على منطق النعامة التي تدفن رأسها في الرمال. هذه الوحدة التابعة لوزارة الداخلية بالتعاون مع منظمة"يونيسيف"تستحق كل اهتمام وتقدير. فوقوع اعتداء جنسي على طفل أمر جلل تقشعر له الابدان، لكن وقوع هذا الاعتداء على طفل عربي تحديداً لا تقف آثاره عند قشعريرة الابدان، بل يمتد الى الفضيحة والكارثة وتكتّم الامر. كسر جدار الصمت عدد الحالات التي وردت الى الوحدة منذ افتتاحها في عام 1998 في زيادة مستمرة، اذ بدأت في هذا العام ب295 حالة وظلت تتزايد الى أن بلغت 1423 حالة في عام 2004. هذه الزيادة يفسرها مدير الوحدة العقيد فاضل حمود بأنها لا تعكس بالضرورة زيادة في حالات الاعتداء الجنسي، لكنها تعكس زيادة الوعي بالتبليغ عن هذه الحالات في السنوات الأخيرة. "أجيالنا"حملة توعية ضخمة تجرى في الاردن منذ فترة، وهي تهدف الى حث الجميع على التخلي عن مبدأ الصمت في ما يختص بالاعتداء على الاطفال، سواء كان جنسياً أم نفسياً أو جسدياً. ويبدو أن مثل هذه الحملات بدأت تؤتي ثمارها. يشرح الدكتور جهشان مهمات عمله البالغ الصعوبة والانسانية في آن. فهو يكشف طبياً على الاطفال الذين يصلون الى الوحدة بسبب تعرضهم للاعتداء البدني أو الجنسي، يشير إلى حقيبة صغيرة تحوي عدداً من المعدات المستخدمة في هذا الشأن: كيس صغير لجمع أي آثار على ملابس او جسم الضحية، آلة لاجراء مسح على الاعضاء التناسلية، واخرى لتحليل اللعاب، واشياء اخرى صغيرة لكنها تثير القشعريرة لمجرد تخيل جسد الضحية الصغير الذي يخضع لها. اما الجهاز الموضوع عند آخر سرير الكشف فهو بالغ الدقة وقادر على تصوير الأعضاء التناسلية من الداخل بدقة متناهية وهو ما يستخدم للتأكد من حدوث الاعتداء الجنسي ودرجته. كما يمكن من خلاله معرفة ما إذا كانت الضحية - في حال كانت أنثى - ما زالت عذراء، وإن لم تكن، التأكد من توقيت فض غشاء البكارة. وعلى رغم هدوء الدكتور جهشان والجو العام اللطيف في المكان، إلا أن الطفل أو الطفلة حين يصل الى الوحدة يكون في حالة نفسية بالغة الصعوبة. وهو ما يحتم خضوعه لجلسة مع احد الاختصاصيين النفسيين للحديث. وهذا يجري في غرفة صغيرة مزينة بستائر ملونة، تحتوي على كتب قصص وحكايات جميعها ذات مغزى. الغرفة مزودة بنافذة عريضة ذات زجاج غامق اللون لا يكشف ما وراءه، وخلف هذا الزجاج يجلس اختصاصيون يتابعون ويحللون فحوى الحديث الدائر من خلال ميكروفون متناهي الصغر. يشير العقيد حمود الى أن 60 في المئة من عناصر الشرطة العاملين في الوحدة من الإناث، وذلك لطبيعة المشكلات التي يتعاملون معها. إحدى اولئك الضابطات هي الكابتن فاطمة التي تدربت مدة طويلة على مفاهيم الاساءة الجسدية والجنسية التي يتعرض لها الاطفال والنساء. تقول:"عملي في هذه الوحدة غيّر الكثير من المفاهيم الحياتية لديّ. فالتعامل مع طفل في السابعة من عمره تعرض لاعتداء جنسي اصعب بكثير من التعامل مع الجرائم الكبرى في اقسام الشرطة العادية". وهي تؤكد أنها تشعر باختلاف كبير بين الوضع هذه الآونة وبين بداية عمل الوحدة في عام 1998. فقد بدأ التابو ينكسر شيئاً فشيئاً، وعلى رغم أن ذلك يتم ببطء، لكن المهم أنه يحدث. التفكّك الأسري معظم حالات الاعتداء الجنسي التي تصل الى الوحدة هي لأطفال تعرضوا لاعتداء جنسي من خارج الاسرة، وإن كان من شخص ليس غريباً بالنسبة الى الطفل. يقول العقيد حمود:"98 في المئة من الاعتداءات الجنسية تكون من شخص خارج نطاق الاسرة". لكن تجب الاشارة الى أنه ربما تكون الاعتداءات الجنسية داخل نطاق الاسرة مسكوتاً عنها في شكل أكبر. يقول الدكتور جهشان إن احدى الحالات التي وردت اليه حديثاً لفتاة عراقية في ال17 من العمر، ظلت تتعرض للاعتداء الجنسي على يد زوج امها لمدة ثلاث سنوات قبل أن تلجأ الى الوحدة. والحالات المشابهة كثيرة، فهناك طفلة في الرابعة من عمرها كانت تتعرض لمضايقات جنسية من والدها، فبادرت الجدة باصطحاب الطفلة الى الوحدة. وحالة ثالثة لمراهق في ال13 من عمره ظل يتعرض للاعتداء الجنسي على يد أخيه غير الشقيق الذي كان يهدده ليمنعه من ان يحكي لاحد عما يحدث. وعلى عكس المتوقع، فإن النسبة الاكبر من الحالات التي تصل الى الوحدة هم من الذكور. وهو ما تفسره المسؤولة في مكتب"يونيسيف"الاقليمي في عمان الدكتورة مها الحمصي في ضوء كبر حجم"التابو"المفروض على الحديث عن الاعتداءات الجنسية على الاناث اكثر من الذكور، إضافة الى طبيعة المجتمع والعادات والتقاليد التي تفرض قدراً أكبر من القيود على تحرك الفتاة خارج البيت، هذا إذا افترضنا أن المعتدي ليس من داخل الاسرة. ويشير العقيد حمود إلى أن استراتيجية العمل في الوحدة تهدف الى عدم تفكيك الاسرة، إضافة الى جعل إحالة الطفل الى المؤسسات البديلة هو الاختيار الاخير. وليس أدل على ذلك من اختيار أن تكون الوحدة خارج الإطار المتعارف عليه لاقسام الشرطة والذي يزيد من توتر الضحية الصغيرة. اما عن كيفية وصول المعتدى عليهم الى الوحدة، فذلك يتم من خلال الاحالة من اقسام الشرطة، ومن المستشفيات العامة، والمدارس، وغيرها. هذا اضافة الى الاهل الذين قد يصحبون الابن أو الابنة الى الوحدة للمساعدة. ويستطرد حمود قائلاً:"على رغم أن العائلة هي المكان الطبيعي لوجود الطفل، لكن في الحالات التي نستشعر فيها تعرض الطفل للخطر او التهديد، يحال الامر على القضاء للحصول على إذن حماية. وفي هذه الحال يحال الطفل على دار الامان التي تترأسها الملكة رانيا". يقول الدكتور جهشان"إن الاسرة هي المحضن الآمن لجميع افرادها، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً. فهي توفر لافرادها الامن والامان، والحماية والرعاية، والتضامن التكافل وهي الملاذ لاستيعاب تحديات الحياة التي تواجه أطفالها. إلا أن بعض الأسر تتعرض لتحديات مثل التفكك الأسري والعنف والمشكلات الاقتصادية، وهو ما قد يعرض افرادها للعنف". وتقول الحمصي إن"الحل الواقعي في حالات الاعتداء التي تحدث داخل الأسرة ليس حبس المعتدي، لأنه سيتم الإفراج عنه يوماً ما، لكن الحل هو علاج الطرفين". وعلى رغم الإشارة السابقة إلى أن النسبة الأكبر من المعتدين على الأطفال هم أفراد خارج نطاق الأسرة، إلا أن الحمصي تؤكد العكس، تقول:"النسبة الأعلى للمعتدين هي من داخل الأسرة، لاسيما الأب والأخ والعم". التقرير العالمي حول العنف والصحة يعرف العنف بأنه"الاستعمال المتعمد للقوة الفيزيائية المادية أو القدرة سواء بالتهديد أم الاستعمال الفعلي لها من الشخص ضد نفسه، أو ضد شخص آخر، أو ضد مجموعة أو مجتمع، فيؤدي إلى حدوث أو ترجيح احتمال حدوث إصابة أو موت أو إصابة نفسية أو سوء النماء أو الحرمان". أما إساءة معاملة الأطفال، فقد عرفها التقرير نفسه بالتعاون مع الجمعية الدولية للوقاية من إساءة معاملة الأطفال كالآتي:"تشمل حالة انتهاك الطفل أو إساءة معاملته جميع أشكال المعاملة السيئة البدنية أو العاطفية أو كليهما، والانتهاك الجنسي والإهمال أو المعاملة بالإهمال أو الاستغلال التجاري وغيره المؤدية إلى أذية حقيقية أو محتملة تؤذي صحة الطفل، أو بقاءه أو تطوره، أو كرامته". وهل هناك ما هو أكثر من الاعتداء الجنسي على طفل أو طفلة لتهدر كرامته، أو تطوره أو بقاءه؟