في اللحظة التي اغلقت فيها صناديق الاقتراع في العراق وخارجه قبل أيام كان السؤال الذي قفز إلى الواجهة متجاوزاً ارتياحاً اولياً برره هدوء امني لم يعتد عليه العراقيون منذ زمن ولا يتوقعون له ان يطول:"هل سيختلف شكل العراق بعد الانتخابات عن شكله قبلها؟". وبصرف النظر عن ارتباط الازمة العراقية بنتائج يوم الخامس عشر من كانون الاول ديسمبر الجاري وما يتبعها من معركة متوقعة قد يطول امدها في شأن تشكيل الحكومة وموقف المجموعات المسلحة على اختلاف توجهاتها ناهيك برؤية الادارة الاميركية لدورها في العراق الجديد فإن الشارع العراقي الذي توجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع ما زال ينتظر منذ سقوط نظام صدام ان تتحول وعود الساسة"الوردية"إلى واقع حال على الارض. استقطابات... وانتخابات كان واضحاً منذ اقرار مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية بعد احتلال العراق ان الوقت قد يطول قبل ان يتجاوز العراقيون آلية الاستقطاب السياسي على خلفيات طائفية وعرقية مع تصاعد المخاوف من عدواه التي انتقلت كالنار في الهشيم من المنابر السياسية إلى الشارع الذي لا يعوزه القلق والارتباك. انتخابات الخميس الماضي افرزت تصعيداً للاستقطاب برز في طبيعة الكتل والتيارات السياسية المشاركة ودخول استقطاب سني إلى صميم العملية السياسية لينضم إلى الاستقطاب الشيعي والكردي, مع حراك بدا هذه المرة اكثر تحضيراً للقوى الرافضة لهذا الاستقطاب كان حضورها في النهاية غير حاسم في المشهد العراقي في ضوء ما اعلن حتى الان من نتائج الانتخابات. ونظرة عامة الى طبيعة التحضيرات التي رافقت الدعاية الانتخابية نجد ان القوى المشاركة تمحورت حول اربعة اتجاهات: الشيعة القادمون إلى السلطة بشعار معلن يشمل اعادة حقوق"الغالبية المهضومة"، والسنة المندفعون إلى العملية السياسية لتعويض ما فاتهم في الجولة الاولى والدفاع عن"وجودهم"في ظل ما يعتقدون بأنه"تعسف"شيعي - اميركي في حقهم، والاكراد العازمون على الحفاظ على مكتسباتهم سواء تلك التي اوصلتهم إلى حدود"الاستقلال الواقعي"طوال مرحلة التسعينات ام ما ظفروا به من نصوص الدستور إضافة إلى طموحاتهم في شأن كركوك الغنية بالنفط... وعلمانيون حاولوا القفز على منطق الاستقطاب والاعتماد على قاعدة شعبية تنوعت بين رافضي شكل الحكم الديني ومؤيدي الاتجاه الليبرالي. لكن عقد الانتخابات العراقية بالطريقة الهادئة التي أجريت بها لم يكن مرتبطاً فقط برغبة شعبية عامة تشجع خيار حل الازمة العراقية المتداخلة بطرق"ديموقراطية", انما ب"هدنة"اعلنتها المجموعات المسلحة قبل يومين من الانتخابات لا يتوقع ان تستمر ايضاً بسبب الاختلاف في وجهات نظر تلك المجموعات في شأن جدوى الانخراط في العمل السياسي في ضوء عدم وجود رؤية واضحة ومعلنة لمستقبل وجود القوات الاجنبية في العراق وتداخل ذلك مع حضور ما زال قوياً للمجموعات المسلحة التابعة لتنظيم"القاعدة"والتي تحمل اجندة تكاد تكون اممية وتعلن عدم ارتباطها باي مشروع وطني بقدر سعيها لتأسيس"دولة خلافة"ومحاربة الغرب في كل الساحات. معركة الحكومة وفي موازاة ازمة المجموعات المسلحة التي يرجح ان تجد حلولاً فاجعة خلال مرحلة ما بعد الانتخابات, تقفز ازمة تشكيل الحكومة العراقية المقبلة إلى واجهة الاحداث لتؤسس لخلافات متوقعة على هامش المعضلة التي برزت منذ الانتخابات الماضية في شأن اعتماد نظام المحاصصة المطبق حالياً بتمثيل شيعي - سني - كردي في الحكومة او انتهاج مبدأ الاستحقاقات الانتخابية. ويجمع السياسيون على ان مبدأ المحاصصة يشكل على المدى البعيد كارثة في النسيج الاجتماعي والسياسي العراقي, لكنهم يؤكدون ان خيار الاستحقاقات الانتخابية سيكون اكثر خطورة على الواقع العراقي في ظرف بناء المؤسسات الرسمية, خصوصاً الامنية منها. خريطة البرلمان العراقي المقبل ستكون مشغولة من اربع كتل سياسية يتقدمها الائتلاف الشيعي الذي يتجه في ضوء النتائج الاولية إلى نيل النسبة الاكبر من مقاعد البرلمان 120 - 130 مقعداً، وتتجه كتلة رئيس الوزراء العراقي السابق اياد علاوي لنيل ما بين 30 و35 مقعداً, والكتلة السنية والكتلة الكردية بنسب متقاربة بين 40 و50 مقعداً... لكن التقسيم السابق لن يقود باي حال إلى تشكيل حكومة استحقاقات انتخابيةفيما يصبح خيار المحاصصة"شراً لا بد منه"في ضوء رفض اميركي مسبق لانفراد اي كتلة بمقدرات الحكومة حتى لو حازت غالبية المقاعد. وتمضي الاشهر الاولى من العام المقبل نحو معركة متوقعة، وربما طويلة، لتشكيل الحكومة وسط توقعات باستمرار نظام المحاصصة السائد حالياً في المناصب السيادية وعلى النحو التالي مع الاسماء الاكثر حظاً لتولي هذه المناصب: 1- رئيس الجمهورية كردي جلال طالباني ونائباه سني وشيعي عدنان الدليمي وابراهيم الجعفري، 2- رئيس الوزراء شيعي عادل عبد المهدي او ابراهيم الجعفري ونائب واحد كردي، 3- وزير الدفاع سني سعدون الدليمي على رغم رفض السنة توليه المنصب وهناك تلميحات عن رغبة اميركية باسناد هذا المنصب الى اياد علاوي، 4- وزير الداخلية شيعي باقر صولاغ، 5- وزير المال شيعي علي علاوي، 6- وزير الخارجية كردي برهم صالح او هوشيار زيباري، 7- وزير النفط شيعي او سني ويحدد الاسم في ضوء التحالفات، 8- رئيس البرلمان سني ويرجح استمرار حاجم الحسني في منصبه او تولي طارق الهاشمي. ويتوقع نشوب معركة سنية - شيعية في شأن وزارتي التربية والتعليم العالي للاستئثار بأي منهما. وعلى رغم ان حظوظ علاوي في تولي رئاسة الحكومة اصبحت اقل بكثير من حظوظ عادل عبدالمهدي او ابراهيم الجعفري فان التحالفات لتشكيل الحكومة ستظل موضع شد وجذب في المرحلة المقبلة وربما تشهد مفاجآت. وتنحصر الاحتمالات في هذا الشأن بخيارين: الاول: تحالف الائتلاف الشيعي مع الكتلتين السنية والكردية لضمان اكثر من 85 في المئة من مقاعد المجلس النيابي على ان مع اقصاء كتلة علاوي او محاولة تفكيكها عبر استقطاب الجهات المؤتلفة داخلها فتذهب شخصيات وكتل نحو جماعة نائب الرئيس الحالي غازي الياور وجماعة عدنان الباجه جي والحزب الجمهوري بزعامة سعد عاصم الجنابي وعدنان الجنابي إلى الكتلة السنية, فيما تتجه شخصيات اخرى للتحالف مع الكتلة الشيعية او الكردية. الثاني: ان ينجح علاوي في ضمان تحالف مع الكتلة السنية والاكراد وشق كتلة الائتلاف من خلال اجتذاب شخصيات واحزاب داخلها مثل حزب الفضيلة الذي يمتلك ما لا يقل عن 20 مقعداً داخل الكتلة. وبصرف النظر عن نتائج المحادثات التي سترافق تشكيل الحكومة فان تحديات اساسية ستكون امام طاولتها لفترة حكم تستمر اربع سنوات هذه المرة, في مقدمها التعامل مع قضية جدولة الوجود الاجنبي في العراق الذي لا مناص في حكومة يقودها الائتلاف الشيعي بتشكيلته الجديدة التي تضم 30 في المئة من انصار التيار من التصدي له كاولوية تتناغم مع اولويات اخرى مثل التصدي للوضع الاقتصادي المنهار وتطبيق مشروع رفع الدعم الحكومي عن السلع الاساسية استجابة لشروط البنك الدولي والذي ابتدأ برفع اسعار المحروقات الذي صاحبته عاصفة جماهيرية رافضة قد تطيح به، ومن ثم قرار الغاء البطاقة التموينية وصولاً إلى تطبيق نظم التخصيص على مختلف المؤسسات الرسمية ناهيك عن اصلاح النظم القضائية والتعليمية وتوطيد العلاقات الخارجية في مواجهة ملفات ساخنة تم تدويرها من مراحل سابقة خصوصاً ملفي ايران وسورية والتعامل معهما في اطار لا يخرج كثيراً عن الرؤية الاميركية. ومن المؤكد ان جدولة الانسحاب الاميركي من العراق ستكون مثار جدل واسع في ظل الحكومة المقبلة التي ستواجه تحدياً رئيسياً مرتبطاً باحتمال الطلب منها اميركياً التوقيع على معاهدة دفاع مشترك او اتفاق لقواعد دائمة ما يعد مثار جدل وخلاف واسع في العراق. لكن التحدي الامني على رغم كل ذلك سيكون الابرز الذي تواجهه الحكومة العراقية المقبلة في ضوء ضبابية الحلول المطروحة لمعالجة هذا الملف بين تبني الحل الامني عبر مواجهة المجموعات المسلحة عسكرياً او المطالبة بالتأسيس على مبدأ الحوار مع تلك المجموعات او المزاوجة بين الحل العسكري والحوار بالاستناد إلى منظومة مقاومة ? ارهاب التي ظلت هي الاخرى عائمة ويمكن استخدامها سياسياً على نطاق واسع. ولا يبدو ان النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات وما صاحبها من اتهامات بالتزوير لمصلحة القائمة الفائزة يمكن ان تسهم في تطبيع الاوضاع باندماج المجموعات المسلحة في العملية السياسية بعد ان سمحت باجراء الانتخابات وحماية صناديق الاقتراع واصدرت بيانات قررت خلالها وقف عملياتها العسكرية خلال الايام التي أجريت خلالها الانتخابات على رغم اصرار مجموعات اخرى يمكن ان تصنف ضمن التنظيمات المقربة من"القاعدة"على استهداف عملية الانتخاب. وعلى رغم الجدل في شأن موقف المجموعات من العملية السياسية في العراق فان ابواباً فتحت امام امكان الحوار مع تلك المجموعات مع دخول ممثلين عن العرب السنة الذين قاطعوا انتخابات كانون الثاني يناير 2005 إلى معترك السياسة والمنافسة الانتخابية في انتخابات كانون الاول ديسمبر من العام نفسه. ويرجح اكثر المراقبين تفاؤلاً استمرار التوتر الامني في العراق خلال الاعوام الاربعة المقبلة على حاله تحدياً أساسياً أمام الحكومة العراقية العتيدة. وعود انتخابية وينتظر الشارع العراقي بكثير من القلق نتائج ملموسة للوعود الانتخابية التي اطلقت خلال مرحلة الدعاية وتركزت على انهاء الوجود الاجنبي والشروع في حملات اعمار واسعة والقضاء على الفساد الاداري وتوفير فرص عمل للشباب ويتقدم ذلك توفير الامن المفقود.