كثيراً ما تكون الاغتيالات السياسية بادئة لفواجع او حروب تنال الدول. هذا ما حدث في الحرب العالمية الأولى بعد اغتيال شخصية سياسية مرموقة في النمسا. وكذلك كانت سلسلة الاغتيالات التي لا تنتهي دورتها في لبنان مادة لاستعار الحرب الأهلية سنوات طويلة الى ان تعب المتحاربون وصدر قرار دولي وإقليمي متعاون بوقف النزيف فكان اتفاق الطائف، وتوقفت دورة العنف الى ان لاحت بوادر التدخلات الدولية الحادة التي لا تبحث عن مقاسمة ارادات دولية وإقليمية مما هدد منذ اللحظة الأولى بالدفع في اتجاه القرار 1559، الذي كان لحظة"كسر عظم"بخلاف طبيعة منظومة الأممالمتحدة الافتراضية، وما تبعه من تقرير للأمين العام للأمم المتحدة تجاوز منطوق القرار في حد ذاته، بإعادة لبنان الى سابق وضعه كساحة عمليات دولية - اقليمية مما يجعل السلم الأهلي والاستقرار الأمني في مهب الرياح. المؤكد ان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري سيدفع الأوضاع في لبنان الى ذروتها وستكون اطراف اقليمية ودولية في صلب التورط في مأزق سيتنامى في صورة لا سابق لها. وباختصار سواء كان العمل مدبراً لهذا الغرض وفقاً للنظرية التآمرية ام انه يستثمر في شكل عاجل فإن المسعى لتدويل المسألة اللبنانية عبر استثماره سينعكس في صورة لا سابق لها على الوضع الداخلي اللبناني وسيتردد صداه في كل من سورية وإسرائيل وعموم المنطقة. ووفقاً لرؤية تحاول ان ترى الأمور بهدوء وتبحث عن الأسباب والسياق كي تفهم: فإنها ترى بأنه عندما يدعو الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى تحقيق دولي وتتحدث واشنطن عن العمل مع مجلس الأمن لمعاقبة الفاعلين فور حدوث العملية وهو ما لا تسيغه قواعد ومنطق التحقيق في اي جريمة، فإن هذا يعني ان هناك اتجاهاً ربما كان مبيتاً وراء هذه العملية، إذ انها المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن تدويل تحقيق لجريمة. وفيما تعلن واشنطن عن الاستعداد لمعاقبة دولية استباقية لفاعلين لا يزالون مجهولين في سياق التحقيق يبدو ان الأميركيين يريدون ان يوجهوا التهمة في اتجاه جهة بعينها، مما يعني ان هناك اتجاهاً للذهاب مبكراً نحو تأزيم الموقف في لبنان، قبل تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تنفيذ القرار 1559 خصوصاً إذا ما ربط هذا الأمر مع الضغوط الفرنسية لإجراء ما قبل الانتخابات اللبنانية بما يدفع نحو وضع يجعل تنفيذ القرار في سياق ازمة، وهو التدويل الذي جهر به الفرنسيون ودفع إليه الأميركيون وركبت موجته المعارضة اللبنانية بما جعل سمة اللعبة هي"الدفع الى التدويل". والواضح وفقاً لرؤية باردة وعقلانية هادئة ان اغتيال الحريري الذي تم بعملية متقنة جاء في توقيت يهدف الى افتعال ازمة داخلية وإقليمية ودولية لوضع القرار 1559 على نار ساخنة. فالمعروف ان موكب الحريري تتقدمه عملياً سيارة تعزل اي إشارات إلكترونية وبالتشويش بنطاق واسع بمظلة إلكترونية، لمنع استخدام السيارات المفخخة. وهذا يعني، بأن من قام بهذه العملية يملك قدرات كبيرة في مجال الحرب الإلكترونية لحذف تأثير سياراته، وهذا ليس من إمكانات اي من الدول الإقليمية ما خلا اسرائيل او دولة عظمى، او ان يكون فعل عملية انتحارية. وهنا يرى تحليل بأنه: اذا كان الاحتمال الأول فهذا يعني ان وراءه جهة دولية او اقليمية لاستخدام العملية لمأزق اقليمي يستهدف سورية، وإذا كان الاحتمال الثاني وثبت ان وراءه مجموعة ارهابية فهذا يعني ان لبنان لا يزال ساحة عمليات ارهابية وأن الاستقرار لا يزال موضع تساؤل خصوصاً مع محاولة إضعاف القوة الوحيدة القادرة على إبقاء الاستقرار فيه، إذ ان هذا العمل لا يمكن له ان يكون عصبوياً لأنه يحتاج تحضيراً نوعياً ومراقبة واستطلاعاً ودعماً لوجستياً وحذفاً وتشويشاً وتأمين انسحاب وهو ما يتجاوز حدود إمكانات عصابة او جماعة مغمورة والأهم انه يتجاوز الإمكانات المتوافرة لسورية في لبنان لجهة الأداء الإلكتروني الذي تخصصت فيه اسرائيل، اذ من المرجح ان اختيار نقطة"السان جورج"للتفجير يرتبط الى حد كبير بتحقيق معادلة خط النظر في المعالجة الإلكترونية للتشويش المرافق لموكب الحريري. المشكلة التي تتجاوز حدثاً بمأساة رحيل شخص بوزن الحريري تشير الى ان ما سيحدث قد يدوّل الوضع في لبنان دفعاً نحو اخراج القوات السورية وتفكيك"حزب الله"وهو المقصد من القرار المذكور والتدويل في آن. القرار 1559 هو المرتسم الأول لما حدث اخيراً في لبنان وما سيحدث، فهو قسم اللبنانيين ودفع الاحتقان السياسي الى الذروة التي تشابه الى حد كبير الاحتقان الذي ادى الى انفجار الوضع في لبنان عام 1975 . عادة ما درج اللبنانيون بعد الطائف على التهدئة العقلانية وامتصاص الأزمات، إلا ان التصعيد الذي تجاوز حدود اتفاقية الطائف وصولاً الى طلب الانتداب والحماية الدولية خلافاً للأعراف والثقافة السياسية السائدة في المنطقة، انما يهيئ لوضع يبدو انه سيكون إشكالياً. رئيس مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية في دمشق.