قبل خمس دقائق فقط من الانفجار الذي هز وسط بيروت التجاري وأدى الى تساقط زجاج بعض المطاعم والمقاهي فيه، كان رفيق الحريري يجلس في مقهى "ساحة النجمة" كافيه ليتوال. غادر زهاء الواحدة إلا عشر دقائق ثم وقع الانفجار زهاء الواحدة إلا خمس دقائق. كان الحريري خرج من مبنى المجلس النيابي قبيل الثانية عشرة ظهراً ربما الساعة 11.50 لينتقل الى المقهى المقابل في ساحة النجمة. سبقه اليه بعض الزملاء الصحافيين وبعضهم كان يتوقع قدومه. وجلس الى احدى الطاولات الزملاء عبدالهادي محفوظ الرئيس السابق للمجلس الوطني للاعلام وعلي حمادة جريدة النهار ومحمد شقير "الحياة" فانضم اليهم مدير مكتب الاعلام في الأممالمتحدة نجيب فريجي ووليد شقير "الحياة". وبعد دقائق معدودة دخل الزميل فيصل سلمان جريدة السفير وجلس الى احدى الطاولات في ركن آخر من المقهى على مقربة من طاولة جلس حولها النائبان نجيب ميقاتي ومحمد كبارة والوزير السابق منسق تيار الحريري في الشمال سمير الجسر. وبعد هنيهات فهم بعض الزملاء ان حركة مرافقي الحريري على مدخل المقهى تنبئ بمجيئه. ثم انتقل الزميل محمد شقير الى مجالسة الزميل سلمان. وبعدها أطل الحريري من على درج البرلمان وتوجه مع مرافقيه على الاقدام الى "كافيه ليتوال". كان وفد كبير من الجمعيات النسائية التي أخذت تواكب مناقشات اللجان النيابية المشتركة لقانون الانتخاب، خصوصاً لجهة ما سبق ان طرح لجهة الكوتا النسائية في القانون قد تجمعن على طاولات رصيف المقهى، فتوقف لتحيتهن، ثم حادثهن زهاء عشر دقائق. عندما دخل المقهى مازحه احد الزملاء قائلاً: "على هذه الطاولة موجود القرار الرقم 1559 حيث يجلس فريجي الذي رافق الموفد الدولي في مباحثاته في بيروت ودمشق الاسبوع الماضي وعلى الطاولة الاخرى حيث الزميلان فيصل سلمان ومحمد شقير اتفاق الطائف. أين ستجلس دولة الرئيس؟". اجاب: "أنا سأجلس على طاولة ثالثة في طاولة تتوسط الطاولتين ومن يريد ان ينضم الي فليفعل". فانضم الجميع الى طاولته. بدأ الحريري بالسؤال: هل قرأتم ما قلته اليوم في "السفير"؟ أجابه أحدهم: قلت انك لا تختلف مع "لقاء عين التينة" الموالاة لأنه تمسك باتفاق الطائف لكنه تناول الطائف فقط من زاوية الاصلاحات الدستورية... وقبل ان يكمل الزميل رأيه اجابه الحريري: نعم. فاذا سمعتم تصريحات الرئيس أمين الجميل اليوم عن ان اتفاق الطائف فرض تحت الضغط ترون ان هناك جنوحاً لدى بعض المعارضة. فما المصلحة في اثارة مواقف توحي بالرغبة في تعديل الطائف؟ انا لهذا السبب، وكما ترون احاول ان آخذ موقفاً يقف بين أطروحات بعض المعارضين وبين جنوح السلطة والموالين. في هذه الاثناء انضم النائب ايمن شقير ثم النائبان فارس سعيد ومنصور البون والزميل في "الحياة" حسن اللقيس، فتوجه الى النائبين قائلاً: "من غير الجائز الموافقة على كلامه الجميل خصوصاً لجهة العودة عن اتفاق الطائف، اننا في غنى عن هذا الكلام، لأنه يعيدنا الى الوراء ولا مصلحة للبنانيين في ذلك. ورد سعيد بأن ما قاله الجميل امام مؤتمر الحركة الاصلاحية الكتائبية كان مكتوباً، وكنت بادرت بعدما سمعت كلامه الى لفت نظر جوزف ابو خليل عضو المكتب السياسي السابق في حزب الكتائب الذي كان حاضراً في المؤتمر وقلت له لا مصلحة لنا في هذا الموقف ولا بد من توضيحه، وأرجو ان يترك الامر لنا في "لقاء قرنة شهوان" لأننا معنيون به، وسنقوم بتأكيد موقفنا في التمسك بالطائف والاصرار عليه، اذ ان الوثيقة التأسيسية للقاء القرنة تنص على ان لا عودة عن الاصلاحات الدستورية الواردة في الاتفاق". وفهم من كلام سعيد انه يفضّل ان يأتي الرد من داخل لقاء القرنة، "لأنه يجنبنا الدخول في تجاذبات سياسية حول مسألة لا اظن ان هناك من يختلف عليها". وعاد الحريري الى الحديث عن الظروف التي رافقت التوافق على الطائف مكرراً انه على قناعة بتلازم المسارين السوري واللبناني وأن التمسك بهما لا يؤمنه الوجود العسكري السوري بمقدار ما يحميه الوضع السياسي ككل. وفيما كان يتابع حديثه انضم الى الطاولة النواب من كتلة الرئيس الحريري باسل فليحان، أصيب بحروق بليغة جراء الانفجار اذ كان يجلس الى جانب الاخير لحظة حصول الانفجار، غطاس خوري، عاطف مجدلاني، فالنائب وليد عيدو الذي حضر ليبلغه همساً ان الناشطين الاربعة في جمعية التنمية في بيروت تركوا في هذه الساعة بسند اقامة. وكان رد الحريري الفوري: "اياكم و"الهيصة"، عليكم ان تتصرفوا وكأن شيئاً لم يكن، ومن الآن فإن الملف اقفل ولا داعي للعودة اليه". واذ دافع الحريري عن موقفه المتميز عن المعارضة والموالاة، قال ان لا خلاف على تلازم المسارين وان ما يدور حالياً مع الاخوان في سورية يبقى في حدود الملاحظات التي نبديها حول الاداء والتدخل في التفاصيل الداخلية. وتطرق الى قانون الانتخاب وخصوصاً بالنسبة الى تقسيم بيروت، وقال: "انا لم اعترض على الدائرة الثالثة الاشرفية ليس لأنني مؤيد لها، وانما لتفادي الدخول في سجالات طائفية ومن هنا يأتي تركيز على الدائرتين الثانية والاولى". ولفت الى ان البعض اتهمه بسبب موقفه من تقسيم الدائرة الثالثة بأنه طائفي، وقال سائلاً: "كأن رفيق الحريري هو الذي وضع مشروع القانون وليست الحكومة التي يفترض عليها ان تتحمل المسؤولية". وتابع: "لقد قسّموا الدائرة الثالثة كما يريدون - أي الدولة - ويطلبون مني الاختلاف مع الآخرين، لن اقع في اللعبة، وعلى كل حال انا واثق من الناخبين في بيروت الذين يعود لهم اختيار من يمثلهم واذا انا كنت قوياً، اني استمد قوتي من هذا الشعب الوفي". ثم خرج لدقائق من المقهى ليختلي بفريجي ليعود واياه، محاطاً بمرافقيه اللذين استشهدا معه، يحيى العرب أبو طارق والحاج طلال ناصر الذي شوهد يهمس في اذنه، وسمعنا الحريري يقول بعدها: "خليهم يحضروا الغداء في البيت الساعة الثانية، واتصل بهاني حمود وبلغه ان يكون معنا في هذا الوقت". وبعدها التفت الحريري وسألنا كعادته "شو الاخبار؟"، فقلنا له كل الناس تحكي في قانون الانتخاب، فتدخل احد نواب كتلته وقال: "يا دولة الرئيس، قضية الزيت في اشارة الى ملاحقة اربعة ناشطين كانوا يوزعون صفائح الزيت على المحتاجين كانت العنوان الرئيس لمداولات النواب في مستهل جلسة اللجان المشتركة والآن اعطي الكلام للنائب باسم السبع". وعلق الحريري بقوله: "من الافضل للحكومة ان تحذف المواد 68 الخاصة بالاعلان والاعلام الانتخابيين و69 المتعلقة بالمصاريف الانتخابية و72 التي تجيز لمجلس الوزراء اصدار مراسيم بناء لطلب الوزير المختص، يمكنه من خلالها الالتفاف على الشق الثاني من القانون في حال تأخر التصديق عليه". وأضاف: "ان المادة 68 نسخوها كما قيل لي من قانون انتخابي يعمل به حالياً وكما قيل لي، في السلفادور. وبالتالي لا بد للحكومة من ان تصرف النظر عن هذه المادة خصوصاً ان الغاء المادة 68 لا يجيز لمحطة ام تي في الموقوفة بحكم قضائي ان تعاود البث لأن معاودته تحتاج الى اصدار مرسوم من مجلس الوزراء". وأكد الحريري "ان البعض يظن بأن تقسيم بيروت سيضعف قوتي الانتخابية، ولنفترض ان كلامه صحيح، لكن في مقدوري، التعويض في أقضية اخرى، كما ان شقيقتي النائب بهية الحريري لا تنتخب في الجنوب في حال كان دائرة واحدة إلا بموافقة حركة "أمل" و"حزب الله"، لكن في القضاء لا اظن انها في حاجة الى ذلك، وهي قادرة على الوصول الى البرلمان. وتوجه الى الزميل عبدالهادي محفوظ، قائلاً: "كنت أحياناً تأتي اليّ لتنبهني بأن البعض يتهمني بالتجييش المذهبي وان علي الاحتراس ازاء اتهامات كهذه. وأنا اقول، حينما يقومون بتقسيم الدوائر على هذا الشكل أليسوا هم الذين يتسببون بهذه المشاعر المذهبية التي أسعى أنا الى تجنبها؟ وفي الحقيقة أنا منذ جئت الى رئاسة الحكومة لبعت دوراً في توجيه الرأي العام نحو التضامن الاسلامي باعتباره الضمانة للعلاقة الوثيقة مع سورية وللتحالف معها". وقبل ان يكمل الحريري تبادل الكلام على الواقف مع النائب نجيب ميقاتي الذي كان يجلس الى طاولة اخرى مع كبارة والجسر... ثم تحدث مع فيصل سلمان ومحمد شقير همساً عن الحوار الذي دار بين رئيس الحكومة عمر كرامي ورئيس "اللقاء النيابي الديموقراطي" وليد جنبلاط اثناء وجودهما في الكنيسة لتعزية النائب روبير غانم بوفاة والده قائد الجيش الاسبق العماد اسكندر غانم، والذي اعقبه قيام جنبلاط بارسال هدية الى كرامي، لم يفصح عنها. فقال له محمد شقير: "بالمناسبة، يا دولة الرئيس سنلتقي عصر اليوم امس الرئيس كرامي في دارته". فرد قائلاً: "أرجو ان تنقل له عن لساني ان الاجواء على العموم في البلد غير مريحة ولا بد من ان يبادر الجميع الى التهدئة، فلتكن المنافسة الانتخابية ضمن الاصول، وليس من مصلحة لأحد استمرار اجواء الاحتقان لأن ما يهمنا تغليب مصلحة البلد". وتابع: "اوعا يا فيصل سلمان ومحمد شقير ألا تقولا له هذا الكلام. ثم نظر الى ساعته، وطلب من ابو طارق تحضير السيارات، فصعد الى سيارته وقادها بنفسه وجلس الى جانبه فليحان... ليواجه جريمة الاغتيال. اللقاء معه في المقهى، كان الاخير وكأنه حضر ليودعنا خصوصاً ان ابو طارق كان حذرنا محمد وفيصل من التغيب عن اللقاء، وقال لي على الهاتف: الرئيس بدو يشوف "الزعران" وهو اعتاد ان يقصد محمد شقير وفيصل سلمان بهذا اللقب. وما ان أنهى ابو طارق المكالمة حتى تلقى محمد اتصالاً من النائب علي حسن خليل حركة "أمل" "الذي حذرنا من ترك المقهى لأن الرئيس الحريري في طريقه الينا وقد طلب من محمد مرافقته للقاء "الزعران". لكن النائب خليل تأخر في الحضور، على رغم انه رافقه من القاعة الى بهو البرلمان، الا ان الحريري عاد من امام المدخل الرئيس للمجلس ليتوجه الى مكتب الرئيس نبيه بري وسمعه خليل يقول له: "تعال معي يا حاج بدنا نسلم على معلمك".