يبدو أن طهران، وخلافاً لحليفتها دمشق، قررت أن يكون"الهجوم غير وسيلة للدفاع"، واختارت أن يكون الهجوم من الموقع الأكثر إثارة للجدل في العالم الغربي عموماً، حتى توصل رسالتها الى الجميع هناك بأنه لا مجال للبحث عن"ثغرات"في جمهورية"البنيان المرصوص"بخصوص ملفها النووي، وأنه لا فائدة من المماطلة أو التسويف بشأن الاعتراف والإقرار بحقها في هذا المجال والذي تعتبره مشروعاً وقانونياً وشفافاً بما فيه الكفاية. فقد اختار"رجل"المرشد الأكثر ولاء لعقيدة النظام ورئيس جمهورية"البنيان المرصوص"عشية يوم القدس العالمي ليعلن من خلال ندوة تلامذة ناشئين تحت عنوان"العالم من دون الصهيونية"بأن بلاده ليس فقط لن تتراجع قيد أنملة عن دعمها للقضية المركزية في العالم الإسلامي، لا بل إنها لا تزال تعتقد بضرورة"محو إسرائيل من الوجود"وابدالها ب"حكومة شعبية فلسطينية على كل التراب الفلسطيني المحتل". إنها رسائل من الوزن الثقيل جداً ليس فقط الى واشنطن، التي تسعى جاهدة للتضييق على الحركة الديبلوماسية الإيرانية، بل الى المفاوضين الأوروبيين الذين تعتبرهم طهران بأنهم"ماطلوا"كثيراً معها حتى استحقوا مثل هذا العتاب الكبير والرسالة الحازمة التي اضطر أحمدي نجاد للكشف عنها في خطبته العصماء، على ما يبدو، يوم الأربعاء الماضي، مما أثار حفيظة الإدارة الفرنسية التي أسرعت لاستدعاء السفير الإيراني لديها للاستفسار عن حقيقة ما سمعت. فبإلاضافة الى القول بضرورة"تفكيك"النظام العنصري الحاكم في تل أبيب، وهو المقصود بمحو إسرائيل من الخريطة بالمناسبة، فقد كشف أحمدي نجاد عن أنه"وبخ"السفير الفرنسي في طهران، وإن لم يسمه بالاسم، وذلك أثناء لقائه به قبل أيام، على ما يبدو، على ما تقوم به بلاده من رعاية لمنظمة"مجاهدين خلق"المصنفة"إرهابية"حسب القانون الأميركي والأوروبي، وعلى صمت باريس وكل العواصم الغربية المطبق على ترسانة إسرائيل النووية وانتهاكها العلني والفاضح لحقوق الإنسان الفلسطيني والقتل المباشر مع سبق الإصرار لأطفال فلسطين أمام أعين أمهاتهم"من دون أن تفتح بلادك سحاب فمها، ثم تأتيني هنا لتحدثني عن حقوق الإنسان المضيعة"في بلادي. حسب النص الذي أورده أحمدي نجاد في كلمته التي ألقاها بالمناسبة المذكورة. ليس وحدهم الفرنسيون الذين اعترضوا على كلمة الرئيس الإيراني، فإسرائيل جن جنونها وطالبت بطرد إيران من الأممالمتحدة، وكذلك فعلت لندنوواشنطن مثل باريس، لكن الفرنسيين كانوا الأكثر ارتباكاً وحرجاً. والسبب ربما يعود، حسب المراقبين بالاضافة الى الاشارة"التوبيخية"التي وردت حول سفيرهم الى كون فرنسا متهمة أيضاً بما يلي: أولاً، خرق اتفاقية باريس الموقعة على أراضيها بين الإيرانيين والترويكا الأوروبية حول الملف النووي الإيراني، من خلال عدم الوفاء بتعهداتها القانونية في هذا المجال. ثانياً، أنها رأت نفسها الأكثر معنية من غيرها في"الصراع التاريخي بين العالم الإسلامي وعالم السيطرة والنفوذ الذي يمتد الى ثلاثمئة عام خلت"كما ورد في كلمة الرئيس الإيراني حيث ربما تكون فرنسا شعرت بذنوبها التي لم تشف منها بعد بخصوص مجازر الحروب الصليبية. وثالثاً، وأخيراً وليس آخراً، ربما رأت نفسها معنية أكثر هنا من خلال موقفها المثير للشك والترديد بخصوص هرولتها غير المبررة وراء واشنطن وتل أبيب بخصوص الموقف المسبق والمبرمج ضد سورية وسلاح"حزب الله"والفلسطينيين في لبنان، وهي التي تعرف أكثر من غيرها ماذا يعني ذلك بالنسبة الى طهران إذا ما قررت اتخاذ أسلوب"الهجوم خير وسيلة للدفاع"للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة. إن عدم اعتراف طهران بالكيان الإسرائيلي وتخوفها من موجة"التطبيع"التي بدأت تحيط بإيران مع إسرائيل واعتبار مسألة دعم الفلسطينيين لاستعادة حقوقهم التاريخية المضيعة أولوية دائمة، هو جزء ثابت في العقيدة السياسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعندما يؤكد عليها أحمدي نجاد في كلمة علنية بحضور عميد السلك الديبلوماسي في طهران وممثلين ل"حماس"و"حزب الله"لبنان، فإنه لا يأتي بجديد، لكن التوقيت هو المهم هنا. فعندما يقرر رئيس الجمهورية أن يكون هو المتحدث في هذا السياق، فإن ذلك يعني أن طهران تريد بالفعل ارسال رسائل عدة في آن معاً في هذه اللحظة الصعبة من"الصراع": أولاً، إن على الأوروبيين المفاوضين حول الملف النووي أن ينسوا قضية الصفقة - المحفزات التي سبق لهم أن طرحوها مع الوفد النووي الإيراني المفاوض السابق والتي احتوت، فيما احتوت، على اشارات خطيرة عن منظمات وفصائل المقاومة الفلسطينيةواللبنانية وشبهة الإرهاب التي أريد الصاقها بها أثناء الحديث عن التعاون لمكافحة الإرهاب. ثانياً، إن على الأوروبيين الذين يحضرون الى اجتماع مجلس حكام الوكالة في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، ومن ورائهم واشنطن، أن يطمئنوا تماماً بأن طهران ليست بصدد تقديم تنازلات جوهرية بخصوص حقها الثابت بدورة نووية كاملة للأغراض السلمية. ثالثاً، أن الدفاع عن الفلسطينيينواللبنانيين والسوريين وكل حلفاء طهران عندما يتعلق الأمر بالصراع حول فلسطين والقضايا الكبرى، هو دفاع عن الأمن القومي الإيراني باعتبار أن"الصراع التاريخي"، كما ورد في كلمة نجاد، لا يمكن تجزئته ومن"يجزئه"فإنه يقع ضحية"فتنة"مدبرة لإشغال العالم الإسلامي بعضه بعضاً، كما جاء في الكلمة التي اثارت تحفظات الغربيين مجتمعين. ثمة تساؤل بسيط ولكنه مشروع جداً يطرح على لسان كل عربي ومسلم هذه الأيام، وهو: لماذا تتوقف كل مشاريع التحقيق الدولي وأحاديث حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وعمليات القتل والإرهاب المنظم والتمييز العنصري وغير العنصري عند بوابات الدولة العبرية؟! ألم تستبح جنين جهاراً نهاراً والعالم الغربي سكت، بل وقع وأمضى على قتل لجنة التحقيق الدولية الخاصة بشكف جريمة الإبادة الجماعية في جنين؟ ألم يقتل ابو عمار مسموماً وسكتت كل مجاميع الغرب، بل غطت فرنسا ذلك"إنسانياً"حتى لا تغضب إسرائيل المدللة؟ أمثلة متأخرة فقط من عشرات، بل مئات، مكدسة في أرشيف التاريخ الثقيل الذي يعج بمظالم عالمنا الإسلامي المثخن بجراح الجغرافيا فضلاً عن التاريخ. أين هي حفيظة هذا"المجتمع الدولي"تجاه هذا الجرح النازف في قلب عالمنا الإسلامي والذي يراد ذبحه من الوريد الى الوريد في فلسطين، ولا تتحرك هذه"الحفيظة"إلا عندما يتجرأ أحد بعبور"بوابة فاطمة"الجنوبية اللبنانية ليرمي إسرائيل بحجر حتى لو كان ذلك الحجر من"الكلام"فيصبح"المباح"حراماً؟! * كاتب متخصص في الشؤون الإيرانية.