تقتحم العالم العربي، الجيوش والمشاريع والضغوط، وتتناوبه الاحتلالات والإلحاقات، وتحاول الادارة الاميركية ان تفرض عليه تغييرات لا قبل لأنظمته بها، وهي التي تقدم مشاريع للشرق الاوسط وأفريقيا من اجل "اصلاحات" على قاعدة الرؤية الامنية التي تنهي المقاومة، بعدما اسقطت العروبة بمعناها الرسمي فاختزلت الى نوعٍ من الشعور الخاص غير الملزم والذي لا يترجم في سياسة. هذا الواقع لم يدفع الانظمة جدياً الى تلمس طريق الحلول لأزماتها، فتقوم بالتحايل على الاصلاح عبر منعرج التدرجية التي تتوخى مراعاة "خصوصية" المجتمعات المستباحة، ومن خلال توهم رفض الاملاءات الخارجية باعتبار ان الحل يجب ان ينبع من الداخل، المفوت اصلاً... كل ذلك من اجل اتقاء الهجمة الاميركية على المنطقة، المضافة الى مطالبة اوروبا بالاصلاح الشراكة مع اوروبا، حتى ان البنك وصندوق النقد الدوليين يطالبان بالالتزام بعدد من البنود الاصلاحية كمقدمة لتقديم القروض او المساعدات. هذا الازدحام الخارجي على الاصلاح تقابله المطالبات الداخلية المتنوعة التي تدعو الى الاصلاح الجذري في بنية النظم والمجتمعات والقوانين، منذ عشرات السنين وفي شكل سابق على المتوسطية والشرق اوسطية. لكن السلطات الحاكمة، في معظمها، قضت على تراكم القوى البديلة ودمرت نفسية الفرد ودفعته الى الاستسلام، ولم تأبه حتى الآن بالضغوط، فهي متمسكة بالسلطة التي تغولت وابتلعت الدولة، واستباحت كل الامكانات التي تسمح بالتطور، ومنعت الشعب من اخذ دوره في المشاركة، حيث تخضعه لقوانين الطوارئ والاحكام العرفية وتحرمه من الحريات والضمانات، وترهبه بالأجهزة. الممانعة السلطوية تقف حائلاً ضد الاصلاح عبر الخطاب الايديولوجي والضرب على المخاطر الجيواستراتيجية، والتغني بفلسفة الحكم المركزي الذي "يوحد - يضبط" المجتمع، ودعم الاحزاب "الجهادية"، ما يؤثر في استحقاق الانتخابات على انواعها، الرئاسية والنيابية والبلدية، ويكشف عن اصرارها على تكرار تجربتها والاستمرار في المعايير التقليدية ذاتها التي تجاوزها الواقع. فها هي الانتخابات البلدية في لبنان، مثلاً، تجرى بموجب القانون القديم الذي يخضعها لتحكم السلطة ويقيد حركتها في دوائر التخلف المقيم، على رغم ان مشروع "اللامركزية الادارية" بصيغته الحديثة طرح منذ التسعينات، لتفعيل دور السلطات الادارية المحلية كي يأتي تمثيلها انفع وأجدى للمواطن، لكنه رُكن في الادراج حتى اليوم. وأظهرت نتائج صناديق الاقتراع لاختيار اعضاء المجالس البلدية والاختيارية، جملة من الحقائق، تسهم في رسم لوحة المشهد السياسي: 1- إنجاح ممثلي رموز السلطة الطائفية، مما يعيد تدوير الاسماء - الاتجاهات. 2- كشفت ضآلة المعارضة الرسمية وشبه الرسمية، التي تستبطن عناصر المنازعات والمناكفات المحمولة من المراحل السابقة. 3- لم تظهر في هذه الانتخابات تباشير ولادة تيار ديموقراطي معارض لقوى الامر الواقع وللسياسات المتبعة. 4- اعيد نبش التخلف الاجتماعي واستفزازه واستغلاله والعزف على وتر الطائفية والتجييش المذهبي، واستحضار التموجات العائلية وتصادمها والتفريعات المناطقية وتنابذها، وهي القواعد - المرتكزات التي يرتفع عليها بنيان النظام السلطوي الطائفي، ويتأذى منها الاجتماع اللبناني بكل مكوناته. 5- نقل معركة الانتخابات البلدية الى الحيز السياسي لتوجيه رسالة من الداخل الى الخارج، خصوصاً الولاياتالمتحدة، واعتبارها مقدمة لمعركة الانتخابات الرئاسية والنيابية. الدولة التي تتولى ادارة المجتمع وحل مشكلاته، تتحول مع الطوائف الى "نظام" المزارع الدولية وتقوم بخلق مشكلات المجتمع لتأكيد سيطرتها، ما يضعنا خارج دائرة الاصلاح ونعاني من الفساد بحجة اننا نضارع اميركا، التي لا يمكن مواجهتها فعلاً الا بالاصلاح. ان الأنظمة التي تقمع شعوبها تفقد مصادر قوتها! وفيما يشهد السياق العالمي الجديد عودة القوى الديموقراطية الى ادارة السياسة الدولية، وبدء تراجع القوى الاصولية نسأل: هل سيتحول لبنان الى نظام شبه عسكري مع أفول حركته السياسية، في وقت تتسمر الأنظار على موجة الاصلاح التي تجتاح المنطقة العربية واستتباعاً الاسلامية والعالمثالثية. * كاتب لبناني.