للشعر الفلسطيني ظروفه الخاصة وكيانه المتميز واتجاهاته وخصائصه، وهو الى ذلك كله له مذاقه الخاص. الا ان اهم الجوانب في هذا الشعر هو الجانب الوطني لارتباطه المتين بالقضية الفلسطينية، وبجهاد الشعب الفلسطيني من اجل استرداد حقه السليب. وفي نظرة في الدراسات الصادرة عن الشعر الفلسطيني المعاصر، يجد الباحث أنها كثيرة، بل وكثيرة جداً، لكنها على كثرتها لم توف ذلك الشعر حقه بحثاً ودراسة، إذ يغلب على معظمها طابع السرد التاريخي والترتيب الزمني ضمن اطار قضايا وموضوعات، من دون التعرض لبحث ملامح التطور والتجديد والمعاصرة في هذا الشعر، وان وجدت فهي اشارات سريعة يعتريها الاقتضاب الشديد وعدم الوضوح. من هذا المنطلق تأتي دراسة سعدي ابو شاور وعنوانها "تطور الاتجاه الوطني في الشعر الفلسطيني المعاصر" المؤسسة العربية، 2004 من سنة 1917، وهي السنة التي ابتليت فيها فلسطين بالانتداب الانكليزي، الى سنة 1967، وهي السنة التي احتلت فيها الأرض الفلسطينية. وأحاط ابو شاور في دراسته هذه بما يربو على نتاج سبعين شاعراً ممن مثلوا القسم الاكبر من شعراء فلسطين، باحثاً في شعرهم عن مدى تطور الاتجاه الوطني، بوازع من تفاعل القضية الفلسطينية في نفس الشاعر الفلسطيني كونها أثَّرت فيها وبالتالي أثرت تجربته الشعرية بفيض غزير جداً من القضايا والموضوعات التي لامست مأساته في كل الاحوال وعلى كل الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنضالية والانسانية. ومن زاوية اخرى كشف ابو شاور ومن خلال دراسته هذه أن القصيدة الفلسطينية مثلما حققت ايضاً تطوراً ملموساً في جوانبها الموضوعية والفكرية، حققت أيضاً تطوراً كبيراً في جوانبها الفنية. فبعدما كان تركيز الشاعر الفلسطيني المعاصر منصباً في بنية قصيدته الشعرية على النمط الكلاسيكي الشعر العمودي ووحدة الوزن والقافية وما يتبع ذلك من اهتمام بالصور والقوالب التقليدية الجاهزة والاسلوب الخطابي والتقريري المباشر وما الى ذلك في هذا النمط الشعري، تحول الشاعر في بنية قصيدته الشعرية الى النمط الرومانسي متأثراً بالنفحات الشعرية الغربية التي اتسمت بالرومانسية. وبرز ذلك في البدايات التي بدأها ابراهيم طوقان وعبدالكريم الكرمي، حيث ظهرت الموضوعات الجديدة بأساليب جديدة وصور جديدة وموسيقى جديدة. وكان من مظاهرها صدق الاحساس وطغيان العاطفة وسعة الخيال، وتنوع الصور وحيوية اللغة وبساطتها وانسياب الموسيقى والتنوع في الاوزان والقوافي. الا ان الشعر الفلسطيني المعاصر، كما اظهر الباحث، لابسه تطور مهم بفعل تأثير النكبة التي اصابت الشعب الفلسطيني، إذ طغت عليه النمطية الواقعية، خصوصاً شعراء الارض المحتلة الذين كانوا من اكثر الشعراء الفلسطينيين تأثراً بالاتجاه الواقعي. وهم استطاعوا الى حد ما التخلص من آثار الازدواجية التي رافقت الفلسطينيين في المنفى. ومن ثم، ونتيجة لظروف عدة، بدأت وبعد تلك المرحلة، ملامح الرمزية بالظهور في افق الشعر الفلسطيني المعاصر، فبرز عدد لا بأس به من الرموز التي تعامل معها الشعراء الفلسطينيون، خصوصاً الرموز الاسطورية والتاريخية، التي تعامل معها في شكل واضح وخاص شعراء الوطن المحتل، نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشونها. ومن ناحية اخرى ركّز ابو شاور في دراسته على تطور الخصائص الفنية في الشعر الفلسطيني المعاصر، واستعرض نماذج شعرية متنوعة ابرزت التطور الذي تجلى في لغة الشعر الفلسطيني المعاصر وفي اسلوبه وتصويره الموسيقي. فمن حيث اللغة بيّن الباحث أن ملامح التطور والمعاصرة ظهرت من خلال تفاعل لغة الشعر الفلسطيني المعاصر مع روح المجتمع الفلسطيني، التي تحتوي على الكثير من مضامين التراث الشعبي والعادات والتقاليد الاجتماعية. واحتوت لغة الشعر الفلسطيني على الكثير من المضامين الجغرافية الخاصة بالأراضي والقرى والمدن الفلسطينية، وأسماء النباتات والاشجار والورود... وكذلك على فيض هائل من مصطلحات المأساة وألفاظها ورموزها والكثير من الاسماء التي تحمل الهوية الفلسطينية. اما بالنسبة الى التطور الاسلوبي في الشعر الفلسطيني المعاصر، فوجد الباحث أن البناء المعماري للقصيدة الفلسطينية كان بيّناً في ظاهرتي المطولات والملاحم الشعرية ثم في القصائد القصيرة المركزة، ومن ثم في التنويع في اساليب التعبير كالانتقال من اسلوب الفن الشعري بوجوهه المختلفة الى اسلوب القصة الشعرية فأسلوب المسرحية الشعرية والحوار الشعري. وفي اسلوبي القصة الشعرية والمسرحية الشعرية تعامل الشاعر الفلسطيني مع الحوار الدرامي والفن التراجيدي. وهذا التطور الاسلوبي كان واضحاً في الشعر الفلسطيني بعد النكبة. ويشير الباحث الى ان تطور الاسلوب الخطابي والتقرير المباشر كان يتخذ شكلاً ايحائياً قبل النكبة، ثم رمزياً بعدها. اما في مجال الصورة الشعرية فيوضح أن، بعد النكبة، ظهرت في الشعر الفلسطيني المعاصر صور نفسية تعتمد على حركة الانفعال الداخلي، إضافة الى انواع جديدة، كالصور الاسطورية والمركبة والكلية والمكثفة والصورة المتوازنة والانتشارية والتفصيلية... اما موسيقى الشعر الفلسطيني المعاصر، فإن تطورها من حيث الوزن مرّ في مراحل ثلاث: البيت الشعري ذو الشطرين التقليدي، ثم مرحلتا الشطر الشعري والجملة الشعرية في الشعر الحر الذي يعتمد على التفعيلة وليس على وحدة البيت، مع ادخال بعض التعديلات على الاوزان، ثم المزج بين النمطين التقليدي والحر داخل القصيدة. ومن حيث القافية اظهر ابو شاور في دراسته أن الشعر الفلسطيني المعاصر تعامل مع مختلف انواع القوافي، العامودية الموحدة التقليدية، القوافي، العامودية المتعددة مع الاستفادة في هذا النمط من امكان الموشحات وامكانات الشعر المرسل، ثم قوافي الشعر الحر الموحدة والمتعددة والمهملة. وخلص الباحث الى ان الشعر الفلسطيني المعاصر - على رغم كل ظواهر الاضطراب السياسي والاجتماعي التي مر بها - قطع اشواطاً بعيدة في نموه وتطوره وتجديده موضوعياً وفنياً.