بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر استغلت دوائر مغرضة، سواء في الإدارة الأميركية أو الإعلام الأميركي الموجه صهيونياً، وجود عدد من السعوديين ضمن المجموعة التي نسب إليها تنفيذ تلك الأحداث لتنقل الاتهام ضد الحكومة السعودية والمجتمع السعودي ببنيته الفكرية ومشاربه المتسقة مع التقاليد الإسلامية. وهو اتهام مبهم معروفة مراميه وأهدافه، يتمثل في أوضح عناصره في رغبة جهات في الإدارة الأميركية في دفع السلطات إلى المُضي قُدماً في تعديل صوغ ثقافة المجتمع السعودي وتبديل المقررات الدينية في المدارس والمعاهد العلمية، وبالجملة مسحة التدين التي تغلب على المجتمع السعودي، باعتبارها - وفقاً للرؤية الأميركية والصهيونية - أفرزت ثلة من المشتركين في أحداث نيويورك وواشنطن. والإدارة الأميركية تعرف كيف تستخدم أوراقها بطريقة تخدم أهدافها، فتركز آلتها الإعلامية حيناً على أسماء المواطنين السعوديين الذين نسب إليهم الاشتراك في تلك الأحداث الدامية، وتركز في أحيان أخرى على تحريك دعاوى بالتعويض أمام جهات قضائية أميركية من أسر بعض ضحايا تلك الحوادث ضد شخصيات دينية وفكرية سعودية. ويضاعف بعضنا من أزمة الحصار تلك بتفجيرات تتم داخل بلاد المسلمين بذريعة استهداف رعايا أجانب، خصوصاً من الأميركيين، تطورت أخيراً بتفجير مبنى الأمن العام في الرياض في تطور نوعي دراماتيكي يكشف عن صراع عشوائي. والمؤلم هو ما نسمعه ونقرأه بكثافة في الآونة الأخيرة عن ضبط أسلحة حتى داخل مكةالمكرمة، ومطاردات ومداهمات على نحو لم نألفه في بلاد الحرمين. هناك فارق بين ممارسة الحق في النقد أو المطالبة بإصلاحات وبين تعريض البلاد لكوارث ونكبات، ولست في هذا المقام أشكك في المقاصد والنيات بقدر ما أردت رصد مؤشرات ووقائع بطريقة نزيهة وحيادية. كما أنني غير راغب في التدخل في شأن داخلي إلا بالقدر الذي يتعلق بعموم الأمة، وفى القلب منها الحرص على استقرار بلاد الحرمين لقدسيتها بما تحمله من رمزية يعنى بها عموم المسلمين وخاصتهم. والمستهدف في نهاية الشوط هو ذلك البلد الآمن الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل حدب وصوب بما يلزمنا بالارتفاع إلى مستوى المسؤولية في سد الثغرة التي تمكن أعداء الأمة من الولوج بمراميهم وأغراضهم التوسعية. والمدخل أو الثغرة التي يدخل منها للتأثير في بذر الفتنة هي في ما يتعلق بدور النظام التعليمي والخطب الدينية التي تلقى في المساجد وعلاقتها بظهور الإرهاب. ولن تكون الإدارة الأميركية في حاجة لترديد مثل هذه الاتهامات لأن بيننا ثلة من العلمانيين والمستغربين سيكفونها مؤونة مثل ذلك الحديث. والذين يحلو لهم غمز المجتمع السعودي بمثل ما يتغافلون عن عقود طويلة من التسامح والتدين المتواصل من دون أن تقع مثل هذه الحوادث، فلم تتغير البنية الفكرية في المؤسسات والمعاهد التعليمية وإنما تغيرت ظروف وسياسات إقليمية ودولية تتعلق بشعور قوي بالمرارة من سياسات الإدارة الأميركية في المنطقة متقاطعة مع الحقوق العربية والإسلامية على طول الطريق. وكانت علامات الرفض التي تنبعث من أماكن مختلفة من العالم الإسلامي دليل بطلان الاتهامات التي توعز هذه النتائج للفكر الإسلامي عموماً ومنهجيته داخل المجتمع السعودي خصوصاً. فالذين يلقون الاتهام على المدرسة السلفية لتدافع الأحداث لم ينصفوا الحقيقة، وربما كانت المنافسة السياسية باعثاً لإطلاقه. قد يكون بعض المسائل الفقهية في حاجة إلى مراجعة أو إعمال الاجتهاد لكنها تبقى مسائل فقهية وليس فكراً يتعلق بمد جذوة العنف، لأن التسامح هو عنوان التدين في المدرسة السلفية أو النجدية كما يحلو تسميتها، ولستُ محسوباً على تلك المدرسة لكن الإنصاف يقتضي الإلمام بكل الخيوط. وهنا تجدر الإشارة إلى تنامي ظاهرة العنف العشوائي داخل بلاد المسلمين في صورة لافتة مما يتعين معه ضرورة البحث في أسبابها على نحو أشمل من مجرد البحث الإقليمي لما جرى في بلاد الحرمين أخيراً. فالبادي من خلال متابعة ما يجري من أحداث عنف متكرر في الفترة الأخيرة تركزها في بلدان عربية كما جرى في اليمن والكويت والمغرب وسورية وما أحبطته السلطات الأردنية فضلاً عن تكرر المشهد في الرياض مما يكشف عن خلل عميق في قنوات التواصل بين نخب الأمة ومفكريها وبين ثلة من المتأثرين بآراء فقهية داخل الفكر الإسلامي، ينزلونها على الواقع المشترك من دون بصيرة أو مسؤولية حقيقية من دعاة ومفكرين يمكن أن يساهموا في شكل أكبر في إزالة اللبس، بفض الاشتباك بين خصومات سياسية بينهم وبين بعض الأنظمة وضرورة التبصير بصحيح التأويل والتفسير للأحكام الشرعية. استراتيجية تطويق واحتواء التوتر الناشىء في بلادنا وخصوصاً في بلاد الحرمين عن ظروف أخرى مركبة تحتاج إلى إرادة قوية من كل الأطراف، ولا ينبغي الاعتماد على الحل الأمني وحده الذي لا يجدي غالباً في علاج مثل هذه المشكلات المزمنة مهما كانت قوته وشراسته، بل يجب أن يرافقه ويتزامن معه إصلاح داخلي عام هدفه الأكبر تكريس وحدتنا الوطنية... ومن الضروري أن ندير حواراً موسعاً يستعرض كل الآراء ووجهات النظر مهما كانت قسوتها. وينبغي أن ندرك أن التعددية والتنوع شيء مهم وصحي، وأن شيوع ثقافة التنوع داخل الأمة الإسلامية يبعث على حيويتها وعافيتها بما يلزم معه أن نعمق مساحة الاتفاق ونوسعها خصوصاً في هذا الظرف الذي نعيشه والتحديات التي نواجهها وهو ما أحب أن أشير إليه بضرورة إعادة ترتيب الأولويات. وما يمكن أن نتفق حوله كثير وفي صدارته تأكيد هويتنا الإسلامية والنسق الحضاري للإسلام وموقفنا من العدو الصهيوني والانحياز الأميركي، والسعي من أجل تحقيق تكتل إسلامي وعربي كقوة تفرض نفسها في العالم. * محام مصري.