بين تهديد الذئاب قرية "أم السعد" العراقية في مستهل الرواية، وتهديد أميركا بضرب العراق في آخرها، تمتد رواية "الصمت حين يلهو" للكاتبة العراقية خولة الرومي دار المدى، 2004، وبين التهديدين ثمة مجموعة من التهديدات تطاول الناس في حياتهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وتحوّلهم الى ضحايا بالجملة لمجموعة جلادين من أزلام النظام السابق، وبعض هؤلاء هم ضحايا في الوقت نفسه لهذا النظام. تقول الرواية حكاية العراقيين في العقد الاخير من حكم صدام حسين، في ظل قمع داخلي يمارسه النظام على شعبه الخارج من حربين أطاحتا بموارده وانهكتا قواه، وحصار خارجي أودى بحياة الآلاف جوعاً أو مرض. وهي تفعل ذلك من خلال قرية "أم السعد" التي عانت في الماضي البعيد من تواطؤ الاقطاع والسلطة، وتعاني في زمن الرواية من ممارسات النظام القمعية، حيث ينطوي كل على مأساته، وتحاول الرواية ان تعلّق جميع هذه المآسي على مشجب واحد هو مشجب النظام. وفي الحكاية ان قرية "أم السعد" تداهمها الذئاب، ذات ليلة عاصفة بسبب الجوع، بالتزامن مع مداهمة رجال النظام قرية اخرى، والقضاء على من فيها. وهنا، تقيم الرواية تعادلاً موضوعياً بين الذئاب الحيوانية وتلك البشرية، مع الاشارة الضمنية الى ان خطر الثانية أعظم وشرّها أدهى. ففي حين تنجح "أم السعد" في التصدي للذئاب الحيوانية وإبعاد شرّها، يكون مصير القرية الأخرى الهلاك. وفي ظل هذا الواقع القاسي، يلوذ الناس في القرية بالذكريات، ويعكف كل منهم على ذاكرته هرباً من ذلك الواقع. وهكذا، تطغى الذكريات على الوقائع في الليلة الأولى من الزمن الروائي، ويتم السرد بايقاع بطيء حيث تمتد أحداث هذه الليلة وذكرياتها على مساحة تنوف عن المئة صفحة ونيّف، وعلى رغم ان الذكريات المستعادة قائمة بدورها كالواقع المعيش غير ان وطأة المتذكر هي أخف بطبيعة الحال من وطأة المعيش. وبازاء القمع الذي تمارسه السلطة، منذ ما قبل النظام السابق وخلاله، يجترح الناس أساليب المقاومة في صراع البقاء، فالجد شعلان الذي ذهبت زوجته ضحية تواطؤ الاقطاع والشرطة، يحفر بئراً في أرضه ليفوّت على الاقطاعي فرصة التحكم بماء الشفة والأرض، ولتحقيق الاكتفاء لدى الناس فيستغنون عنه. وتشير الرواية الى تزامن حفر الآبار مع الافكار التحررية التي غزت العالم. وهكذا، يغدو حفر البئر فعل مقاومة يرمز الى التحرر من الاقطاع والاستعمار. وتتعدى مقاومة السلطة هذا البعد الرمزي الى الفعل المباشر الذي يبدأ من الرفض الضمني وينتهي بالانتفاضة كما حصل في الجنوب والشمال، وقد يلجأ البعض الى إساليب المقاومة السلبية في ظل عدم تكافؤ موازين القوى، فيتخفون عن أعين رجالها أو يهربون خارج البلاد. على الخط الفاصل بين السلطة والناس، أو بين الجلاد والضحية، تتحرك الرواية، وتقول من خلال هذه الحركة حكايات العشرات، ولكل حكاية حيّز في الرواية يتفاوت من شخصية الى أخرى. ولأن المقام يضيق بتناول هذه الحكايات. سنكتفي بعرض اثنتين منها تمثلان القطبين اللذين يتحرك بينهما السرد، وتدور الحكايات الاخرى حولهما أو تتقاطع معهما؟ فعلى مستوى الجلاد، يطالعنا صارم شخصية انتهازية، يسعى الى استغلال الاحداث لمصلحته الخاصة، الغاية عنده تبرر الوسيلة، لا يتورع عن ارتكاب اي شيء في سبيل الوصول الى هدفه. فحين تهاجم الذئاب القرية يقترح جمع المال وشراء السلاح للدفاع عنها، غير انه، في قرارة نفسه، يزمع تشكيل فرقة يسيطر بها على القرية، بالتواطؤ مع فارس، رجل النظام الآخر الذي يستغل بدوره موقعه وعلاقاته لتحقيق مآربه. ولعل طفولة صارم الفقيرة وتشرّده ورسوبه المدرسي هي التي حدت به الى ممارسة الاحتيال والسرقة والكذب. وكره الاستقامة، وعززت لديه نزعة جنونية للسيطرة والغدر. لذلك يشي بالمعارضين لدى السلطة فتخفيهم، يشترك في تهريب الآثار مع بعض النافذين، يعقد الصفقات المشبوهة، يشارك في الحرب ويرفضها، يتظاهر بالشجاعة امام رؤسائه وهو جبان في داخله يبحث عن مكان آمن للاختباء، يتوسل الرشوة لتحويل مبزل المياه عن بستان أبيه، يكره أخويه، يهرّب السلع الغذائية ويبيعها في السوق السوداء، يغتصب ملاذ ابنة العامل الكردي لديه، يتعاطى الدعارة والقمار، ويحاول توسيع ممتلكاته في القرية، هدفه المال والجاه والسلطة، ولا يتورع عن استخدام اي وسيلة تقوده الى هذا الهدف، فهو انتهازي بامتياز، و"لن يكترث حتى ولو رقص على قبور ضحاياه..." ص383. ولعلّ فشله في تحقيق بعض اهدافه يؤدي به الى الكآبة، ومن ثم يختفي في ظروف غامضة. وهذه الشخصية هي حلقة في سلسلة أدوات السلطة القائمة، تمارس كل منها القمع وتخضع له في علاقة تتجه من الاعلى الى الأدنى، ويتم فيها التخلص من الأداة حين تفقد دورها أو تكبر أكثر من الحجم المقرر. على مستوى آخر، يمثل عادل شخصية الضحية بامتياز، لجلادين كثر هم الأب والمجتمع والاعراف والتقاليد والسلطة" فغداة تكوّنه نطفة في رحم أمه تعتقل السلطة أباه قبل اقترانه بالأم رسمياً، فتحمله وتهرب من ذويها الذين حكموا عليها بالحرق، وتتخفى في المدينة وتعمل خادمة لتعيل نفسها وابنها، وتكافح في سبيل تعليمه حتى يتخرّج طبيباً. وقبل ان تموت تخبره امه بحقيقة أبيه. وإذ ينجو عادل من مجزرة ارتكبتها السلطة بحق احدى الأسر لايوائها أحد المعارضين، تقوده خطاه الى قرية أبيه، فيتخفى في بستان الأب لمساعدة ابن عمه ساهر من دون ان يعرف صلته بهما. وحين يكتشف حقيقة هذه الصلة بفعل الصدفة أو اللعبة الروائية التي تدوّر الزوايا، يشي صارم بالأب والابن، يهرب الأخير خارج البلاد، ويلقى القبض على الاول. ولعل الكاتبة أرادت ان تقول من خلال هذه النهاية ان لا مجال للقاء وحياة طبيعية في ظل القمع. وتقول الشيء نفسه من خلال قيام السلطة باحباط محاولة عادل بثروة زميلته التي أحب. فعندما تزول موانع الزواج من أمامهما بعد انتظار طويل، يشي احد المخبرين بثروة حين يرى عادل معها، فيلقى القبض عليها ويهرب هو. وهكذا، تقول الرواية مداورة ان الحياة الطبيعية في ظل سلطة القمع مطلب مستحيل. ولعل النهاية التي آلت اليها كل من شخصيتي صارم وعادل، المتمثلة باختفاء الأول في ظروف غامضة، وهرب الثاني خارج البلاد، تؤشر بدورها الى استحالة الاستمرار، في مثل تلك الظروف، سواء بالنسبة للضحية أو الجلاد. والى جانب هاتين الشخصيتين، ثمة شخصيات كثيرة تتحدد مواقعها في ظل موقع هذه الشخصية او تلك. وينجم عن تفاعل هذه الشخصيات في ما بينها واشتراكها في الحيز الروائي الواحد، عالم روائي هو صورة تكاد تكون طبق الاصل عن مجتمع يقيم على الخوف والشك والارتياب، ويمارس التقية من أجل البقاء، ويتحكم التفكير الغيبي بكثير من مجريات حياته. في مثل هذا المجتمع، يؤمن الناس بظهور الانبياء أو من يمت اليهم بنسب ويقدمون لهم النذور لتحقيق أمنياتهم المتواضعة، ويرددون كل شر يحيق بهم الى "الطنطويل" خوفاً من تسمية الاشياء بأسمائها. وتحفل الرواية بكثير من الملاحظات الانثروبولوجية، فتمعن في تحليل نفسيات شخصياتها وأنماط عيشها، كما في قولها: "مشكلتهم هي انهم لا يستجيبون بسرعة. لا يتفاعلون مع من يحاول دفعهم لعمل شيء ما. لا يطيعون من هم أعلى منهم. فأرضهم كانت مسرحاً للغزاة. لذلك أصبح الشك والريبة هي طبيعتهم الغالبة". ص24 هذا الفضاء الروائي ينهض به خطاب له مواصفاته الخاصة، سواء على مستوى السرد او الحوار او اللغة" فعلى مستوى السرد يتحرك مكوك السرد بين مجموعة من الثنائيات ناسجاً النص الروائي، وهو في حركاته ذات الاتجاهات المختلفة يتمخّض عن أثر سردي متنوع وغني. فهو قد يتحرك بين الوقائع والذكريات، وكثيراً ما تشكل الذكريات ملاذاً من الوقائع القاسية، أو بين الذاكرة حين تستعيد الشخصية احداثاً معينة والعين حين تقع على فضاء معين وهنا تجنح اللغة السردية نحو الوصف، أو بين الخارج بما هو مكان الجلوس والداخل بما هو تداعيات وأفكار تجرى داخل الشخصية، أو بين المكان الروائي بما هو القرية والبساتين والنهر والبيوت والنخيل والصحراء والاحداث التي تقع على أرض هذا المكان، أو بين التاريخ الخاص والعام والحاضر المعيش. وينجم عن حركة السرد بين هذه الثنائيات نسيج روائي متعدد الألوان. وللسرد وظيفة روائية تختلف باختلاف الشخصية التي تتوخاه فقد تتخذه احدى الشخصيات وسيلة للتقرب من اخرى، وقد تتخذه الاخرى وسيلة لمزيد من المعرفة بتاريخها الخاص. وتختلف سرعة السرد باختلاف الحالات النفسية والمواقع" فهو بطيء جداً في رصد حالة العامل الكردي تعبان وحركاته النفسية والخارجية ازاء مقتل ابنته الوحيدة ملاذ، وهو سريع الايقاع في نهاية الرواية ولدى تصوير مصائر بعض الشخصيات. وعلى مستوى الحوار، تستخدم الكاتبة المحكية العراقية، فتعزز البعد الواقعي فيها، وتعكس روح المجتمع الذي تتناوله. ولعل ضيق مساحات الحوار في الرواية يؤشر الى ضيقها في المجتمع، وحصوله تحت وطأة السرعة وربما المراقبة. اما اللغة في الرواية فهي لغة وسط بين المباشرة والأدب، وقد تجنح نحو تصويرية انشائية جميلة تبقى محافظة على مضمونها ووقائعها من دون ان تسقط في خواء اللفظية وتقعّر الانشاء. وهكذا، بهذا الخطاب الروائي تبني الدكتورة خولة الرومي فضاء روائياً خصباً تتشابك احداثه وتكثر شخصياته، فيكون "الصمت حين يلهو" في مستوى الكلام حين يجسّد.