انتقد الدكتور وحيد عبد المجيد في مقاله المعنون "محترفو هجاء النظام العربي" الذي نشر في "الحياة" في 10/3/2004، ثلة من النخب اعتادوا الميكافيلية السياسية، لكن الأزمة أعمق من حصرها في بضعة من الكتاب أو المتسيسين لأنها أصبحت أزمة أمة وقضية جيل بأكمله تفوق خصومات أيديولوجية لنخب المثقفين في مراكز البحث والترف الفكري، فالشعوب قلقة على لقمة الخبز التي تأكلها وهي قلقة أكثر على هويتها وخلفيتها الدينية التي باتت تتهدد بالغزو الخارجي والانفراط الداخلي، وتداعيات الأزمة تجاوزت حرباً مفتعلة على الإرهاب انعقدت جولاتها الأولى في كابولوبغداد لما هو أبعد فيما يمثل مشروعاً لقوى الاستكبار العالمية تتقسم فيه من جديد حدود وثروات العالم الثالث. وكان الصديق الوحيد عبد المجيد وهو الباحث الماهر شاذاً في وصفه لما تمخض عنه مؤتمر وزراء الخارجية العرب بالنجاح، وقد عدت الى كل ما نشر عن هذا الاجتماع فلم أحصد غير الفشل وهو عنوان كبير لتصريح أدلى به وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم ترجم الفشل في الوصول إلى صياغة مشتركة لمشروع عربي للإصلاح. وكاتب هذه السطور طامح مثل غيره إلى محاولة الوعي بما يراد لنا، وفي هذا ننظر لضرورة التوحد بين الحكومات والحركات الشعبية لوضع استراتيجية موضوعية وثابتة تمكننا معاً من استيعاب آثار الحرب الدولية لقوى الاستكبار ضدنا وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الشعوب لن تقاتل مع الأنظمة المستبدة ولن تدافع عنها والمثل بدا شاخصاً للعيان في قصة مؤلمة لسقوط بغداد وتبختر الدبابات الأميركية في عاصمة الخلافة والعروبة. وقد كتبت سابقاً في "الحياة" أيضاً وفي ما تضمنته مبادرة أصدرناها عن مركز المستقبل للدراسات في مصر منذ ما يزيد على العام بمثل ما أشرت إليه في السطور السابقة وأن الركائز التي من الممكن أن تبنى عليها جهود المخلصين لتشييد حائط صد لمواجهة موجات التغريب يأتي في صدارتها إعادة الهوية للامة والتأكيد على الإسلام كخلفية أساسية بحسبانه نسقاً حضارياً يستوعب كل العرب على اختلاف عقائدهم الدينية فضلاً عن ضرورة إرساء مبادئ الشورى والديموقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة واحترام إرادة الأمة وعدم تزويرها. وأخيراً قامت الدنيا ولم تقعد بعد إعلان مرشد الإخوان بمصر السيد محمد مهدي عاكف من داخل نقابة الصحافيين، مبادرة للإصلاح السياسي!! وتداخل اللوبي الحكومي المنظم داخل بعض المؤسسات الإعلامية ليشغل الرأي العام عن مضمون المبادرة الإخوانية بإثارة قضايا فرعية مثل حق الإخوان في استخدام قاعة تؤجر للجميع استثماراً في نقابة الصحافيين واتهام الإخوان بطرح مبادرة قديمة استخدمت في الدعاية الانتخابية سابقاً ولو صح هذا الاتهام لما نال من حق الإخوان في تجديد طرح رؤاهم في مناسبات ومنعطفات تاريخية في حياة الأمة أو كما قال الشاعر: "حلال على بلابله الدوح". وليس صحيحاً أن حال الإحباط تدفع دائماً إلى ترويج الخطاب العدمي الذي يعج بمفردات الشكوى والعويل والصراخ على النحو الذي يراه الصديق وحيد ويقصي حق كل التجمعات والمؤسسات الأهلية والشعبية في طرح رؤاها التي يلزم على الحكومات الاستفادة منها إذا كانت جادة فعلاً في تحقيق التوحد والتلاحم فعلى رغم أهمية هذا الملف لتحقيق الإصلاح داخل العالم العربي ووضع أطر للمشاركة السياسية الفاعلة لكل الحركات والفعاليات السياسية والفكرية لمنظومة الإصلاح السياسي بعيداً من التدخل الأجنبي تبقى المحاولات أقل من المأمول بما يستلزم ضرورة تبني الهيئات والمؤسسات الفكرية العربية سواء الرسمية أو الشعبية لندوات واجتماعات مشتركة أو أحادية في المستقبل إذا كنا راغبين حقاً في استيعاب كل القوى وقطع الطريق أمام التدخل الأجنبي تحت ذريعة الإصلاح السياسي لكن المطالبة بتلقي المبادرات الحكومية فقط بطريقتها في الإصلاح هو نوع من العبث واستمرار لتراجع المشروع العربي والإسلامي على الصعيدين الدولي والإقليمي وتكريس المشروع الاستعماري بإبقاء ذرائع التدخل. أخشى أن يفهم البعض مما ذكره الدكتور وحيد عبد المجيد أنها دعوة لتأييد النظم التي مارست الاستبداد عهوداً طويلة في تأويلها الوحيد لتطبيق مبادرات الإصلاح السياسي وهو أمر محل نظر جميع القوى السياسية فمحال أن تستطيع مثل هذه الحكومات بمفردها أن تتحول طوعاً إلى غير ما كانت تمارسه زهاء نصف قرن على الأقل من الزمن، وإذا كنا نستكثر على الجماعات التى تقوم بمراجعات لبعض أفكارها وممارستها أن تعاود نشاطاتها مرة أخرى فكيف نقبل من تلك الحكومات التى مارست الدجل السياسي والاستبداد بكل صوره أن تعاود هي من دون غيرها لتقديم التفسيرات اللازمة لعملية التغيير أو الإصلاح، لكن مبدأ استقلال الوطن هو الذي قد يدفع لإمكان قبول التنسيق بين تلك الحكومات والحركات على أن تتقاسم معاً تلك العملية لا أن تنفرد بها الحكومات والنظم خصوصاً المستبدة منها. فالدولة المصرية مثلاً وباعتبار أنها كبرى تلك النظم العربية وعلى رغم الهامش المتاح اليوم بها ما زالت تؤمن بالشمولية وهي إلى الآن غير قادرة على التخلص من سياسة الحزب الواحد، والأحزاب المعترف بها من قبل النظام لم تحصل على المساحة الحقيقية لها من الحرية والممارسة السياسية فضلاً عن حرص النظام على حجب المشروعية عن قوى سياسية حاضرة في المشهد السياسي كما أسلفنا عن الإخوان وغيرهم من الإسلاميين وآخرين. إننا بحاجة ملحة أن نفهم إذا كان ذلك ممكناً ما الذي يمنع تلك الحكومات أن تمكن شعوبها من ممارسة حقها المشروع في العمل السياسي من دون أن تتعرض للقهر والبطش وصنوف شتى من المحاكم العسكرية والاستثنائية وأمن الدولة طوارئ وحق التجمعات في تأسيس الأحزاب من دون وصاية أو مصادرة وحق النقابات في إدارة شؤونها وحق المواطنين في إصدار الصحف وتأسيس الشركات الصحافية والإعلامية وحق المواطنين في المعرفة، معرفة الحقيقة بالتأكيد. * محام مصري ومفكر إسلامي.