هل يمكن القول ان غوستاف كايبوت عاش دائماً، كفنان، ضحية لكونه في الأصل رجلاً ثرياً، وان وضعه المهني كمهندس غلب دائماً على اعتباره فناناً حيث يمكن القول انه يشكل الحلقة المنسية في سلسلة الفنانين الانطباعيين؟ ان مثل هذه الأسئلة يطرح نفسه في كل مرة يؤتي فيها، ومصادفة غالباً، على ذكر هذا الفنان الغريب، والذي كان صديقاً لمانيه وديغا، لكن مشكلته كمنت في أنه اعتبر جامعاً للوحات، أحياناً أكثر مما اعتبر مبدعاً لها. ومع هذا، حين أقيم قبل شهور، من الآن، معرض لأعمال كايبوت في باريس، فغر كثر أفواههم متسائلين في دهشة: كيف يمكن للجمهور ولتاريخ الفن أن ينسيا، أو يهملا فناناً من هذا المستوى؟ والحقيقة أن جعل ملصقات المعرض العملاقة تحمل لوحة كايبوت الأشهر "ساحة أوروبا في باريس تحت المطر". هو ما أعطى تلك الدهشة المستنكرة شرعيتها. فاللوحة عمل رائع ويقف بحدة بين كل الأعمال الانطباعية التي أنتجت في فرنسا خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. بل بدت لكثر لوحة مفاجئة إذ ان قلة من الجمهور الفرنسي كانت شاهدتها إذ ان هذه اللوحة الضخمة 209×300سم معلقة منذ زمن بعيد في "معهد الفن في شيكاغو". وفي هذا الأمر، في حد ذاته، مفارقة مؤلمة: ان تكون أهم لوحة لهذا الفنان موجودة خارج وطنه، هو الذي حين مات كان أورث الدولة الفرنسية عشرات اللوحات الانطباعية التي كان اشتراها من ماله الخاص - تشجيعاً لزملائه الفنانين - وعلقت - بعد معركة طويلة خاضها التقليديون ضد ذلك الفن الحديث في حينه - في متحف اللوفر، كما طلب في وصيته، ثم نقلت أواخر القرن العشرين الى متحف اورساي حيث تشكل جواهر معروضاته. عمل غوستاف كايبوت، في شكل عام، كان مدهشاً، اذ انه تأثر بخاصة بديغا ومانيه، جاعلاً من نفسه، على خطاهما، "انطباعيّ المدينة" بينما نعرف ان الفن الانطباعي عموماً، كان فن الطبيعة والشمس المشرقة والضوء الساطع. بالنسبة الى كايبوت، كان المشهد المديني هو المشهد الأساسي، كذلك المشاهد العائلية. الناس في الشارع، في حياتهم اليومية هم الأساس في العمل الفني. أما الضوء الساطع والألوان الزاهية فأمور نسبية يمكن الحصول عليها عبر أي نظرة صافية يلقيها الفنان على أي مشهد يراه صاخباً بالحركة يضج بالحياة. أما عمله الهندسي فلقد أعطى فناننا هذا، حساً بالشكل وتقسيم اللوحة واستخدام المنظور، يكاد يكون فريد نوعه بين الانطباعيين، ويمكن العودة الى كاناليتو في الماضي والى بدايات النهضويين، ثم العبور الى جورجيودي كيريكو في القرن العشرين حتى نعثر على ما يماثله. وإذا كانت هذه الأبعاد تبدو ماثلة في العدد الأكبر من لوحات كايبوت، فإن ما لا بد من الإشارة اليه هنا هو مشاهد الأنهار والمراكب البحرية قد استهوت الفنان بدورها فخلدها في لوحات، تبدو، هي، أكثر اقتراباً من قوانين الانطباعية كما عُرفت وعُرِّفت. وإذ لا تبدو هذه اللوحات، على رغم جمالها، استثنائية، من الضروري دائماً التوقف عند أعمال كايبوت المدينية، حتى نتلمس حقاً تجديدات هذا الفنان وفرادته، والتحسر على ما يشبه الاهمال الذي كان دائماً من نصيبه. ومن بين أعمال كايبوت المدينية نبرز طابعاً لوحة معهد شيكاغو هذه. لقد رسم غوستاف كايبوت "ساحة أوروبا في باريس تحت المطر" عام 1877، أي في عز فورة الهندسة الهاوسمانية لباريس. وفي خلفية اللوحة ما يضعنا طبعاً في قلب تلك الفورة، حتى وإن كانت ارضية الساحة وطرقها لا تزال تضعنا في زمن المشاة وعربات الخيل، غير ان المهم في اللوحة ليس هنا، المهم فيها هو المشهد نفسه، المشهد الذي يرتسم على خلفيتين تحددان اطاره في الآن معاً: خلفية الهندسة المعمارية كما أشرنا، ولكن أيضاً خلفية الطقس الممطر. والمدهش في الأمر أن المنظور الذي اختاره الفنان للوحته يأتي ليضعها على مفترق طريق حقيقي بين الانطباعية - التي تظهر بكل أبعادها وبوضوح في مناخ الخلفية كله -، وبين البورتريه - حيث ان النصف الأيسر من اللوحة والذي يبدو ممتلئاً تماماً بالشخصين العابرين في اتجاه مقدمة اللوحة، يكاد يشبه البورتريه الجماعية على الطريقة الهولندية القديمة -، وأخيراً بين السمة اليابانية التي كانت اكتشافاً أوروبياً جديداً في ذلك الحين، والتي تبدو هنا من خلال عمود الكهرباء الذي يقطع اللوحة نصفين عموديين متساويين حجماً، لكن الفوارق بينهما تبدو مدهشة تماماً. بل يبدو التعارض نفسه صارخاً: فالنصف الأيسر ممتلئ غامق اللون عابق بحركة تؤمنها خطوة المارة، ولكن خصوصاً المظلات التي تغطي الخلفية وتخلق معها في جدلية ممتعة نوعاً من التقاطع الذي لا يترك مجالاً لأي تأمل ذاتي: انه مشهد من الحياة اليومية ومن حركة الناس يبدو تلقائياً قوياً بألوانه الغامقة، مع سيطرة الأسود تبدو مستقاة مباشرة من مانيه، أما النصف الأيمن، والذي تسيطر عليه الخلفية الانطباعية. وهنا أيضاً تبدو المظلات، وان بشكل أقل كثافة، خالقة للحركة أو "الانطباع" الحركة الذي يبدو أول عناصر اللوحة التي تلفت النظر. غير ان التقسيم العمودي، ليس هنا التقسيم الوحيد الذي يخلق ذلك التناقض الذي نتحدث عنه. ذلك ان كايبوت، قسم لوحته أفقياً أيضاً، ولكن هنا بنسبة مختلفة رسمها الخط الأفقي الممتد على طول الخط السفلي الذي تشكله العمارة "الهاوسمانية" التي تظهر في الخلفية. وفي هذا الاطار تكمن سمة أساسية ورائعة من سمات هذه اللوحة. فإذا كان الفنان قد أعطى سماء اللوحة لوناً رمادياً شتائياً فيه شبهة ضوء طاغٍ بعيدة، جعل العمارة المركزية في الخلفية تتقدم وكأنها بهيكلها وألوانها الشتائية تكاد تلتهم اللوحة، فإنه عرف كيف يوظف رطوبة بلاط الساحة والشارع، في الجزء الأسفل من اللوحة، جاعلاً تلك الرطوبة تعطي الأرضية ذلك الضوء الضامر، الذي كانت اللوحة تحتاجه لكي تبدو أكثر ما تكون اقتراباً من الفن الانطباعي. فبلاط الشارع الذي يتراوح لونه عادة بين الأسود والرمادي الغامق، يبدو في اللوحة متراوحاً بين الأبيض والأصفر، في تناقض لوني صارخ مع الجهة اليسارية في اللوحة، وفي تناقض وظائفي أكثر صراخاً مع المناخ الشتائي المسيطر على أعلاها وخلفيتها. صحيح ان هذا كله كان يبدو في نظر بعض غلاة "أنصار الانطباعية" حظياً بعض الشيء، يكاد يبدو مفتقراً الى العفوية والتلقائية التي ميزت مشاهد الانطباعيين الخارجية، غير ان اللافت هو ان انطباع الحركة الذي تخلقه تحركات المارة والمظلات - كما أشرنا - تعيد للمشهد تماسكه العفوي، خصوصاً ان هذه الحركة تضع المشاهد مباشرة في قلب لعبة الحياة اليومية... إذ يلاحظ مباشرة أن ليس ثمة أي تنظيم للمشهد، بل ان تصوير الرجل والمرأة في يسار اللوحة، حتى ثلاثة أرباع سيقانهما، يعطي على الفور الانطباع بأنهما يكملان مسيرتهما حتى أمام أعيننا الشاخصة، أما هذه الأعين نفسها، فإنها تبدو هنا زاحفة إثر ملتقط المشهد الذي يبدو هو الآخر وكأنه، في تلك اللحظة كان بدوره يعبر الطريق من اليمين - يمين اللوحة - الى اليسار. كل هذا أعطى - كما يمكننا أن نلاحظ - فرادة مدهشة لهذه اللوحة، لكنه، على مدى تاريخ الفن، لم يمكن كايبوت من أن يفرد حضوره، أولاً مميزاً، بين الانطباعيين. ومن هنا فإن تاريخ الفن يركز على أن هذا الفنان ولد من أسرة ثرية، وعاش حياته القصيرة 1848 - 1894 غير مرغم على القيام بأي عمل، ومع هذا درس الهندسة العمرانية وهندسة السفن. وانتقل لدراسة الفن في العام 1873، بعد أن درس الحقوق. وخلال تلك الحقبة تعرف الى مونيه، ثم الى رينوار وسيسلي ومانيه، وأعجب بأعمالهم وشارك في معارضهم، وكان لا يتوقف عن شراء أعمالهم دعماً لهم. وهو حين مات في الثانية والخمسين من عمره كان يمتلك مجموعة كبيرة، هي تلك التي أورث 67 قطعة منها الى الدولة لتعلق في اللوفر، وثار الأكاديميون ضد ذلك، ولا سيما "معهد فرنسا" الذي احتج خصوصاً على فكرة عرض لوحات سيزان في اللوفر... وهكذا لم تضم المجموعة الى هذا المتحف العريق إلا في العام 1928.