كنت واحداً من جيل نشأ في منتصف السبعينات على أهازيج الثورة الإيرانية التي قادها آية الله الخميني من منفاه في فرنسا. وبعيداً من الاختلافات المذهبية تأثرنا كثيراً بالحمية الدينية التي غلبتنا بعد سنوات القهر التي سادت مصر سنين عدة أثمرت هزيمة حزيران يونيو 1967 ثم تعلقنا بأهداب الدين بعدما ذقنا طعم النصر في تشرين الأول اكتوبر عام 1973، فكانت الثورة الإسلامية الإيرانية أملاً لكل محروم وغاية لكل مضطهد. وما لا شك فيه أن مشاعرنا تأثرت بقصص وأساطير رويت عن جرائم جهاز "السافاك" ضد معارضي النظام الشاهنشاهي، مثلما تأثرنا بأحاديث "الإخوان" عن جرائم السجن الحربي في جمهورية عبدالناصر، وعلت هتافاتنا في حرم الجامعات المصرية من شمالها إلى جنوبها تندد باستقبال الرئيس الراحل أنور السادات للشاه الإيراني المخلوع. وكانت تلك التظاهرات أولى درجات سلَّم الصدام مع السادات في مصر. وبقدر التعاطف الذي عصر قلوبنا مع أهازيج الثورة الإيرانية ردحاً من الزمن، تسرب القلق شيئاً فشيئاً تجاه تنامي دور الحرس الثوري وأنباء عن تغوله على الحريات. ومع غياب قائد الثورة الإيرانية وصانعها آية الله الخميني تعاظم القلق، إلا ان استمرار الشعب الإيراني في تمسكه بالتراث الحقيقي الذي استهدفته الثورة حقق قدراً معقولاً من الطمأنينة. فكثيرون في العالم العربي يقلقهم تدخل الإدارة الأميركية أياً كان توجهها في شؤون العالم الإسلامي، غير أن هذا القلق تنامى بقدر كبير مع انقسام المجتمع الإيراني إلى إصلاحيين ومحافظين في العقد الأخير. وبدا أن حالاً من التربص ترسم معالم العلاقة بين الاتجاهين، ما ينذر بخلل في منظومة الأداء السياسي داخل المجتمع وبما يشي باضطراب في أدوات العمل ويحول الأمر إلى ظاهرة مرضية. من الطبيعي أن تختلف الآراء وتتبارى في تحقيق رجحان الحلول المقصودة في تنمية المجتمع - أي مجتمع - سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهنا تكون الظاهرة صحية. وهذا عرفته دولة الإسلام الأولى بحكوماتها الخمس من لدن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومروراً بحكومات الخلفاء الراشدين الأربعة، فضلاً عن استقرار هذه المعاني في الحضارات البشرية المختلفة. فإذا تغول طرف - لا سيما إن تمثل في السلطة عبر أطراف أخرى - بدا الخلل مخيفاً ومنذراً باحتقان يمنع التعاطي المجتمعي الصحيح، ويتسبب في انسداد قنوات التفاهم في تحقيق التباعد بين أطراف المعادلة السياسية أو الفكرية وتتعطل قدرات المجتمع في التنمية على مختلف ألوانها. ولا أستطيع أن أخفي أن قدراً كبيراً من القلق الذي انتابني وآخرين داخل الحركة الإسلامية من تنامي ما يسمى بالاتجاه الإصلاحي داخل المجتمع الإيراني كان يرتبط في شكل كبير بالمؤثرات الأميركية في المنطقة. والمؤكد أن الحماسة الدينية تلعب دوراً في المؤثرات السياسية تجاه الحدث داخل المجتمع الإيراني. وبعد سقوط حكومة "طالبان" وما وضح من تأييد الحكومة الإيرانية لإسقاطها، انطلاقاً من خلافات مذهبية، بدا أن تأثير الاتجاه الإصلاحي يؤتي ثماره داخل منظومة اتخاذ القرار السيادي هناك، وتنازلت حكومة خاتمي عن ثوابت كثيرة ميزت أداء الثورة الإيرانية منذ بداياتها في علاقاتها مع الحركات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم بالنصرة والتأييد المعنوي في كفاحها لنيل حقوقها الطبيعية في العمل السياسي تجاه تجاوزات تمارس ضدها. إلا أن تغيراً كبيراً أصاب هذه الخلفية، تمثل في احتجاز الحكومة الإيرانية كثيرين من عناصر إسلامية من جنسيات عربية مختلفة تضطهدها من حكوماتها أو لديها اختلافات سياسية معها وتسليم بعض منهم فعلاً إلى تلك الحكومات تحت ضغوط عنيفة من الادارة الاميركية ووفق مزاعم تورطهم في علاقات مع تنظيم "القاعدة"، على رغم أن المتواتر حتى داخل الحركات الإسلامية الجهادية ذاتها أن نفراً من هؤلاء بقوا في أفغانستان منذ انتهاء الحرب الأفغانية الأولى، ومع دخول أولى حكومات المجاهدين بزعامة صبغة الله مجددي، واستمروا بها تحت حكم "طالبان" من دون أن يتورطوا في القتال معها أو مع "القاعدة". ومن هؤلاء كثيرون من تنظيم "الجماعة الإسلامية" المصرية الذين ناصروا مبادرة وقف العنف داخل مصر وخارجها، وأبرز من يمكن الاشارة إليه في هذا الصدد مصطفى حمزة. ومن داخل جماعة الجهاد المصرية دخلت شخصيات اعتزلت العمل وجمدت نشاطاتها بعد التحالف الشهير بين أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري داخل إيران. وأبرز من يمكن الاشارة إليه في هذا الصدد المحامي المصري ثروت صلاح شحاتة. ولا تعني الإشارة إلى مواقف هؤلاء موافقتنا على إجراءات اتخذتها الحكومة الإيرانية مع آخرين لم يشتركوا في قتال ضد الدولة الإيرانية ولجأوا إليها بطريقة رسمية أو غير رسمية. وفي هذا السياق نرصد التقارب المصري - الإيراني الرسمي على خلفية قضايا هامشية، وفي صدارتها تغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي إلى محمد الدرة. والاسمان لشهيدين عزيزين. وهو شأن إيراني داخلي تعرضنا له في رصد التحولات داخل الحكومة الإيرانية. ويجدر التنوية بأننا لا نسعى الى تقويض التقارب المصري - الإيراني بقدر موازاته مع مصالح الشعوب لا الحكومات. والحقيقة أن الإصلاحيين في إيران لفتوا الانتباه بتحركاتهم الواعية في نقد مثالب الاستبداد وأحادية العمل السياسي والتوجيه الجماهيري. وخفت مخاوف المتوجسين من تأثرهم بالمزاعم الاميركية تحقيق الديموقراطية داخل العالم العربي والإسلامي بدولارات زهيدة! وكانت انتفاضة الطلاب شاهداً حيوياً على الحرص على الاستمرار في محاولة التغيير من الداخل بعيداً من "عمرو". وبكل ألوان الطيف السياسية وخلفياتها الايديولوجية لا يمكن النظر إلى قرار مجلس صيانة الدستور استبعاد أكثر من ثلث المرشحين للانتخابات البرلمانية الجديدة، إلا باعتباره باعثاً على تكريس حال الاحتقان داخل المجتمع الإيراني. وكان الاتجاه المحافظ وفقاً للمثل الدارج "كالدبة التي تقتل صاحبها". فكفالة الحريات العامة وصون كرامة المواطنين ومراعاة حقوقهم بعيداً من المزايدة وفتح ابواب الحرية، كل هذه ضمانات حقيقية لاستقرار أي مجتمع، يتوافق أعضاؤه على الحقوق والواجبات اللازمة لكل مواطن في منظومة العمل السياسي، فلا يسوغ لجهة مهما سمي وضعها في سلم العمل التنفيذي أن تحرم مواطناً من حقه الطبيعي في الترشح، طالما خلت صحيفته من ارتكابه جريمة تمنعه من ذلك الحق. وظني أن طريق الإصلاحيين بات قصيراً. * محام مصري ومفكر إسلامي.