أكمل من حيث توقفت أمس عن ازدياد اللاسامية في أوروبا. ضمن الجدل الفكري حول المسموح به والممنوع من انتقاد اسرائيل كتب لويس دي بيرنيير في "الاندبندنت" ان اسرائيل "تمارس أساليب تذكّر بالنازيين". وردّ عليه ايمانويل أوتولنغي في "الغارديان" بالقول ان المساواة بين الضحية والقاتل تنكر المحرقة النازية "لأنها تعطي تبريراً بمفعول عكسي، فإذا كان بين اليهود أشرار فربما هم يستحقون ما أصابهم". وهي كلمة حق يراد بها باطل، فحملات دي بيرنيير وغيره ليست على اليهود في كل بلد، وإنما على اسرائيل. بل هي ليست على اسرائيل، وإنما يستعمل اسمها مجازاً، لأن الحملات على الحكومة الاسرائىلية، وهي حكومة يمينية متطرفة تمارس بعض أساليب النازية. اتهمت شخصياً الحكومة الاسرائىلية ببعض الممارسات النازية، غير انني كتبت أيضاً، في هذه الزاوية، وفي ردود خاصة بالانكليزية على قراء يهود، ان جميع المجازر بين العرب واليهود على امتداد 14 قرناً لا تعادل بعد ظهر واحد في معسكر أوشفيتز أو تربلنكا، لذلك أجد ان المبالغة تعكس يأس صاحبها من التوصل الى سلام مع هذه الحكومة الاسرائىلية. اليوم هناك زيادة ملحوظة في اللاسامية عبر أوروبا، وإنكارها لا يعني سوى إطالة أمدها، غير ان الاعتراف بها خطوة أولى نحو الحل، كما ان الاعتراف بأسبابها خطوة ثانية في أهمية الأولى. في الأسبوع الماضي فقط قتلت اسرائيل 28 فلسطينياً، بينهم طفلان، وجرحت 60 فلسطينياً، بينهم 33 طفلاً. وكانت غالبية القتلى من المدنيين. أما الجدار العنصري، فحدِّث ولا حرج، والقارئ يعرف ما يكفي عن بنائه في أراضي الفلسطينيين لتدمير السلام نهائياً، وكيف يفصل بين الفلاح وحقله، والطالب الصغير ومدرسته. وفي قلقيلية المحاطة بالجدار من كل جانب، أصبحت الشمس تغيب في الثالثة بعد الظهر. والجدار لا يصل الى رفح، غير ان اسرائيل تمارس فيها تطهيراً عرقياً، يتمثل في تدمير البلدة تدريجاً، فقد دمّرت اسرائيل حتى الأسبوع الماضي 1643 بيتاً، وتركت 16 ألفاً من أهلها في الشوارع. وكانت حصيلة الأسبوع الماضي وحده 31 بيتاً مع تشريد 400 ساكن، وقُتل الطفل طارق سوسي 12 سنة في غارة جوية. وقد بلغ من حجم جرائم الحكومة الاسرائىلية ان الاسرائىليين أنفسهم ثاروا عليها، وندّدوا بها وتنصّلوا منها. والقارئ العربي سمع عن ثورة المجندين، وكيف حكم على خمسة منهم رفضوا الخدمة في الأراضي الفلسطينية بالسجن سنة لكل منهم. وهناك حوالى ألف مجنّد وقّعوا رسائل تعارض الخدمة. وليس الموضوع موقف شبان صغار فقط، فهناك عسكريون في أجنحة مهمة للقوات المسلحة، مثل الطيارين، وبعض قادة الوحدات الذين رفضوا الخدمة ضد الفلسطينيين. بل ان 13 عسكرياً في فرقة "متكال"، وهي تمثل نخبة الجيش كلّه، أعلنوا رفض الخدمة ضد الفلسطينيين، وقد تحدث ثلاثة منهم علناً، وأبدوا خوفهم على مستقبل اسرائيل كبلد ديموقراطي، فهم يشعرون بأنهم تجاوزوا حدود الدفاع عن قضية عادلة الى اضطهاد شعب آخر. هذا الكلام لا يعني أبداً ان تبرر ممارسات الحكومة الاسرائىلية، أي لا سامية جديدة في أوروبا، وإنما أسجلها على سبيل التفسير، فالعربي أو المسلم الذي يتابع ما يعاني الفلسطينيون، ويراه على التلفزيون كل يوم قد يفقد أعصابه، والمؤتمر الذي يعقد غداً ضد انتشار اللاسامية في أوروبا يجب ان يأخذ هذا في الاعتبار، اذا أراد مكافحة الوباء فعلاً لا ان يستعمله للتعتيم على جرائم اسرائيل. المواطن العربي، أو المسلم، في أوروبا يرى كل يوم خبراً يزيد من كرهه اسرائيل، والخبر هذا ليس بالضرورة من مصادر عربية ذات موقف. وكنتُ أجمع معلومات لهذا الموضوع عندما وقعت على تقرير صادر عن لجنة التنمية الدولية التي تمثل مختلف الاحزاب في مجلس العموم البريطاني، وهو يقول ان سوء التغذية في قطاع غزة، وبعض الضفة الغربية، أصبح "في سوء الوضع جنوب الصحراء في أفريقيا"، ويزيد ان جدار الفصل "يدمّر اقتصاد الفلسطينيين وينشر الفقر". هذا كلام مسؤولين بريطانيين منتخبين، وليس دعاية عربية ضد اسرائيل، وأعرف من عضويتي مجلس مستشاري البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، انه قبل ثلاث سنوات فقط كان دخل الفرد في الضفة الغربية هو الثالث بين الدول العربية غير النفطية، فلا يتقدمه سوى دخل الفرد في لبنان وتونس. واليوم وبعد ثلاث سنوات من وجود آرييل شارون في رئاسة الوزارة الاسرائىلية تحوّل المواطن الفلسطيني، الى حد الفقر، ثم الى حدّ الجوع. المؤتمر اليهودي العالمي ورئىسه ادغار برونغمان، والمؤتمر اليهودي الأوروبي ورئىسه كوبي بيناتوف يريدان مكافحة اشتداد اللاسامية، من دون خوض في الأسباب، وهو موقف غريب من برونغمان الذي تعرّض لحملة السنة الماضية بعد انتقاده الحكومة الاسرائىلية. أما السير ستانلي كالمز، الذي يترأس شركة ديكسون الكبرى للأجهزة الكهربائية، فهو يعترض على الدكتور جوناثان ساكس، كبير حاخامات بريطانيا نفسه، لأنه لا يؤيد اسرائيل بما فيه الكفاية ويطالب بعزله. الدكتور ساكس يؤيد اسرائيل جداً، غير ان أنصارها لا يفيدونها كثيراً بالسكوت عن جرائم حكومتها، والخلاف أصلاً ليس مع أي عربي أو مسلم في أوروبا، وإنما مع الأوروبيين أنفسهم، ومع الاسرائىليين الذين يرفضون ان يكونوا طرفاً في ممارسات حكومتهم. وقد تحدثت عن هؤلاء فأكمل غداً بالأوروبيين.