أوائل الثمانينات حلقت مروحة عسكرية فوق مستوطنة نتزاريم. كان على متنها الوزير آنذاك، شارون، والحاكم العسكري لقطاع غزة اسحق سغيف. قال سغيف لشارون، قائده السابق في فيلق المظليين، انه يشعر بقلق بالغ: "عليّ ان أدافع عن معسكر اعتقال من نوع ما، يحيطه معسكر اعتقال آخر، مخيم النصيرات للاجئين. انها تكاد تكون مهمة مستحيلة. ما هي الغاية من ذلك؟". أجاب شارون من دون تردد: "اريد ان يرى العرب كل ليلة مصابيح اليهود على بعد 500 متر". يسلط هذا الحديث الضوء على استراتيجية شارون الاستيطانية. فهي ليست تمهيداً لتحقيق وعد الهي بانتزاع أجزاء من "أريتز يسرائيل" ارض اسرائيل، كما كان يريد غوش إيمونيم الذي ابتدع المستوطنات في 1968. وهي ايضاً لا تعني الاستيلاء على واحدة على الأقل من ضفتي نهر الاردن، كما يدعي منتسبو حركة زئيف جابوتينسكي التي كان يرأسها آنذاك مناحيم بيغن التوّاقون الى الماضي. ولم يكن ما حفّز شارون مجرد دوافع عسكرية تتعلق، مثلاً، بتلال استراتيجية او مفارق طرق رئيسية. بل كان وراء ذلك الرغبة في خلق "أثر استعراضي"، يبيّن من هو السيد، سيد الأرض. وهذا هو الشيء الذي يفسّر انهماك شارون الذي لا يكلّ، "الشبيه بالبلدوزر" حسب كليشيهات الصحافة، بانشاء مستوطنات جديدة وتطوير القديمة منها في الأراضي الفلسطينية، اثناء وجوده في الحكومة كوزير للزراعة، والدفاع، وللتجارة والصناعة، وايضاً في المعارضة حيث بادر الى، وأيّد، انشاء مستوطنات غير شرعية في عهد حكومتي رابين وباراك، على سبيل المثال، او القى خطباً حماسية في تجمعات احتجاجية ضد اتفاقات أوسلو. هذه هي الخلفية التي ينبغي للمرء ان يأخذها بالاعتبار كي يفهم التداعيات التي احدثها داخل ليكود التصريح الفظ الذي ادلى به شارون في تشرين الثاني نوفمبر الماضي أمام اجتماع لأعضاء حزبه في الكنيست وبث وقائعه التلفزيون، قبل ثلاثة اشهر، بأن "الاحتلال هو احتلال هو احتلال. هذا ما يوجد لدينا في غزة، وفي يهودا - السامرة". وحرص شارون على ان يستخدم هذا التعبير الاخير، التوراتي، لكنه لم يُبدِ أي تردد بشأن ما كان يعنيه: هذه الأراضي يقطنها شعب آخر، وفي عصرنا وزمننا الحالي هناك ثمن باهظ يتعيّن دفعه كي يُحكم هذا الشعب ضداً لإرادته. كان يلمح الى ان حلم "اسرائيل الكبرى" مات. وفي وقت لاحق، تناول شارون محتوى هذا التصريح على نحو اكثر تفصيلاً في كلمة مطولة القاها في "مؤتمر هرزليا" السنوي البارز، الذي يشبه احد اجتماعات "تشاتام هاوس" في بريطانيا. وقد سبقت كلمته في الواقع تسريبات من مكتبه اُعدّ لها بدقة ومقابلات خاصة ليست للنشر مع صحافيين جرى انتقاؤهم. لذا لم تكن التصريحات بشأن "الاحتلال" محض صدفة، وليس انتحاباً عابراً لرجل عمره 75 عاماً. كما انها لم تكن بسبب عادته المعروفة بأن يستمتع بإهانة اعضاء حزبه في البرلمان ويذكّرهم بمن يتعيّن ان يدينوا له بالفضل لانتخابهم في شباط فبراير الماضي. لكن ماذا يعني هذا كله؟ هل انتقل شارون اخيراً الى معسكر حركة "السلام الآن"؟ كلا، إطلاقاً. فرد شارون، الذي كان دائماً احد دعاة السياسة الواقعية، بشأن الفرق بين اليوم الذي كان يحلّق فيه على متن مروحية فوق نتزاريم والوقت الحاضر، سيكون على الارجح على طريقة موشي دايان موضحاً التحول في موقفه من تأييد اقتطاع اجزاء من سيناء في 1967 الى التخلي عنها للسادات في 1978: "آنذاك كان آنذاك، والآن هو الآن". أي انه بعد ثلاث سنوات من الانتفاضة، وخصوصاً في اعقاب حرب العراق والموقع المهيمن للولايات المتحدة، يتعيّن على اسرائيل ان تحافظ، قبل كل شيء، على علاقتها الوثيقة مع الرئيس بوش، وهو حليف موثوق لشارون على الأقل منذ احداث 11 ايلول. لذا يجب ان تقوم اسرائيل بعمل استعراضي، مدعوم ببعض التنازلات في الأراضي، يتضمن تجاوباً مع الرغبات الاميركية وليس الفلسطينية لتهدئة النزاع العربي الاسرائيلي بعض الشيء بعض الشيء فحسب، بما يساعد على تحقيق استقرار الوضع في الشرق الاوسط. ويبقى شارون مشككاً، كما كان دائماً، بالأهداف النهائية للفلسطينيين، ويعتقد انه لا يمكن التوصل الى أي اتفاق محدد في المستقبل المنظور. وهو يتساءل الآن ما اذا كان حتى "مشروع خريطة الطريق" اصبح مستبعداً بسبب عجز ابو علاء عن تحقيق هدنة. وينبغي على اسرائيل، كما يعتقد شارون، ان تجد مخرجاً من هذه المشكلة المحيرة بالقيام بمبادرة من طرف واحد قادرة على تلبية الرغبات الاميركية، أي اخلاء قطاع غزة زائداً اجزاء ربما ثلث من الضفة الغربية. إنه "التخلي عن اراضٍ بهدف كسب الوقت"، بحسب تعبير كبير مساعديه العسكريين. واذا كان هذا يقتضي "تغيير مكان" المستوطنات حسب التعبير الملطّف لشارون، فليكن. ان الرجل، الذي قام باجلاء مستوطنة "يميت" في 1982 عندما كان وزيراً للدفاع، يقول انه لن يتردد في ان يفعل ذلك مرة أخرى. لكن هل سيفعل ذلك حقاً؟ يتوقف الكثير على نتيجة النزاع الذي ينتشر كحرائق الغابات في صفوف ليكود. في ليكود، لا في الرأي العام. فالجمهور عموماً يؤيد فكرة انسحاب احادي زائداً شيئاً من اقتلاع المستوطنات. فالناخبون الاسرائيليون، المشمئزون من الفلسطينيين بسبب عمليات التفجير الانتحارية، ومن ضمنهم اولئك الذين صوتوا لشارون بوصفه "رجل السلام والامن"، يريدون "الفصل" كما يُطلق على هذا الحل. ولا توجد لدى معظم الناخبين اي احلام بشأن اسرائيل الكبرى، وهم يمقتون استفزازات المستوطنين خصوصاً عندما يستفزون الجيش والمحاكم، المؤسستين اللتين تحظيان بأكبر قدر من الاحترام. لكن هذا لا ينطبق الى حد بعيد على اعضاء حزب ليكود الذين يبلغ عددهم 210 الف شخص، وحتى بدرجة اقل على عناصره المتطرفة ونوابه في الكنيست. فهنا تستعر المعركة الفعلية. ان الجناح اليميني المتطرف في ليكود، الذي يتداخل مع حلقات في الحركة الاستيطانية، يتكلم عن خيانة شارون، وطلاقهم معه تحقق عملياً كما الحال بالنسبة الى الانفصال بين حركة غوش امونيم، مدلّليه السابقين، وبينه. وينتاب الجناح الاجتماعي في الحزب قلق أكبر جراء الوضع الاقتصادي المتدهور. ويرجع السبب الى ان "خطة التقشف"، المطبقة حالياً لمعالجة هذا الوضع، يمكن ان تكلّف الحزب جزءاً من قاعدته التقليدية وسط الفئات الأدنى، خصوصاً في "البلدات الناشئة" في الأطراف شمالاً وجنوباً، مقارنة بالمركز الغني حول تل أبيب. ويولي هذا الجناح، بقيادة مائير شتريت وزير الدولة في وزارة الخزانة، اهتماماً أقل للسياسة الخارجية، ولا يبدي اكتراثاً بإسرائيل الكبرى ذهب الى حد تأييد اتفاقات أوسلو في 1993. وهو يرى ان التهدئة عبر الاتفاق المتبادل والهدنة هما في مصلحة المجتمع المدني الذي يعاني مصاعب، ولذا فانه يدعم شارون. ومع ذلك فان هذا الجناح يتمتع بتأييد اوسع وسط قواعد الحزب مما هو الحال وسط كوادره، وبدرجة اكبر في الكتلة البرلمانية. وماذا عن الوسط ويمين الوسط في ليكود؟ المحور هنا هم اعضاء حيروت الحزب القديم الذي تزعمه بيغن وانبثق من الإرغون، والذي بني حوله ليكود في 1973. وكان هذا الجناح، الذي تبنى في البداية رؤية جابوتينسكي عن "ضفتين لنهر الاردن"، تخلى ضمناً عن المطالبة بالضفة الشرقية في مطلع الستينات. لكن بعد الانتصار في 1967، انتعشت آماله في اقتطاع الضفة الغربية. وعانى الكثير من التشوش جراء عملية اوسلو وحال الانهاك والاستنزاف وسط الجمهور العام بسبب الانتفاضة. ونظر أعضاء حيروت المخضرمون دائماً بشك الى شارون، الطارىء الذي انضم الى ليكود في أعقاب صرفه من الجيش، لكنهم يدركون كم يدينون له بالفضل على عودتهم الى السلطة الانتخابات المباشرة لرئيس الوزراء في 2001، والانتخابات البرلمانية في 2003. انهم الآن اكثر تشوشاً من اي وقت مضى، ويأملون الاّ يكون شارون يعني حقاً ما يقوله وانه يقوم فحسب بخدعة علاقات عامة تجاه الاميركيين، بالاقوال وليس الافعال. في هذا الوضع المتسم بالفوضى جاءت تصريحات نائب رئيس الوزراء ايهود اولمرت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي التي كان لها وقع الصاعقة. وأولمرت "أمير العائلة المكافحة"، اي عضو نخبة ليكود من أبناء أو بنات زعماء حيروت الذي كانوا مقاتلين بارزين في الإرغون. لقد ولدوا، اذا جاز التعبير، في الحزب، وتربوا على عقيدة جابوتينسكي بالفعل كان والد أولمرت أحد نواب حيروت على مدى سنوات. وكان هناك 7 امراء في قمة الهرم في ليكود، لكن لم يكن احد منهم أكثر طموحاً وذكاءً من اولمرت. ولعب الاخير دائماً ورقة الموقف المتشدد في مساعيه للوصول الى المنصب الأول على رغم انه كان خلال السنوات الثلاث الاخيرة مساعداً مخلصاً لشارون. لذا أصيب أنصار حيروت بصدمة قوية عندما لم يكتف اولمرت بتأييد أفكار شارون التي اعلنها اخيراً، بل ذهب ابعد: دفن علناً اسرائيل الكبرى، التي اعتبرها "حلماً نبيلاً ولكن مستحيلاً"، مستحيلاً بسبب مؤشرات ديموغرافية في الأراضي الواقعة غرب نهر الاردن. فالاقتطاع حتى اذا كان امراً واقعاً سيعني دولة ثنائية القومية. انطلاقاً من ذلك تبرز الحاجة الى الانسحاب بشكل احادي من اجزاء اكبر بكثير من الضفة الغربية، وتشديد الفصل ليس بواسطة "الجدار الامني" فحسب بل ايضاً بوقف تشغيل الفلسطينيين في اسرائيل. ويرفض اولمرت ان يكشف خريطته، لكنها تتجاوز بكثير خريطة شارون. وقد أعلنت الغالبية الساحقة من كتلة ليكود البرلمانية احتجاجها على هذا "الأمير الخائن". لكن ما يلفت الانتباه أن التأييد لاولمرت كزعيم للحزب في المستقبل ارتفع الى اكثر من الضعف وسط اعضاء الحزب. ومع ذلك، لا يزال المنافس الأبرز بنيامين نتانياهو، المتشدد ومع ذلك ينظر اليه بتشكك الكثير من المتشددين لأنه وافق على اتفاقات اوسلو عندما كان رئيساً للوزراء، ووقع في 1997 اتفاقات واي بلانتيشن، متخلياً للسلطة الوطنية الفلسطينية عن السيطرة على معظم الخليل. ويخيم على الوسط ويمين الوسط المشوش، قبل كل شيء، الخوف من انشقاق في الحزب، وهو ما يصبح امكانية فعلية للمرة الاولى منذ 40 عاماً. وقد يعني ذلك خسارة السلطة، مع كل امتيازاتها، التي يتمتع بها الكثير من المتشددين وليس رئيس الوزراء وحده، اذ يشاركون مثلاً في مجالس ادارة شركات تابعة للقطاع العام. هكذا، مهما بلغت خطاباتهم ضد اولمرت من الحدة والانفعال، فانهم لا يذهبون الى حد طرده من الحزب. ويشاطر شارون، لأسباب خاصة به، بعض هذه المخاوف. لذا فانه يلجأ ايضاً الى التحرك بحذر. ويعلق احد المحللين السياسيين ساخراً ان "زعماء حزب ليكود يتحركون صوب احدهم الآخر مثل قنافذ، بحذر كبير". ان المشهد في ليكود هذه الأيام لا يبعث على الملل إطلاقاً.