يعتقد العديد من المتتبعين للملف النووي الايراني بأن أمام طهران فرصة قد تكون نادرة لانتزاع اعتراف دولي بحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية لتقترب من دول مثل جنوب افريقيا والبرازيل اللتين تكتسبان مثل هذا الحق منذ مدة. صحيح ان الأميركيين، وبدفع متزايد من الاسرائيليين، لا يريدون لهذا اليوم أن يأتي، ويعملون جاهدين على وأد المساعي الايرانية في هذا السياق لأسباب سياسية واضحة تتعلق بالدرجة الأولى بالموقف الايراني المعلوم من أزمة الشرق الأوسط وعدم استعداد طهران للاعتراف بالدولة العبرية، مما يجعلها دولة تغرد خارج السرب تستحق ان يشكك في كل نشاطاتها حتى لو كانت صناعة الطاقة الكهربائية بواسطة التكنولوجيا الذرية، بحجة كونها دولة"غير ديموقراطية"بالمعايير الأميركية ما يعني ان خطر تحولها الى دولة نووية حربية أمر ممكن في أي لحظة! لكن الصحيح أيضاً أن ايران التي باتت"دورتها النووية"مكتملة عملياً، أي أنها باتت قادرة بالفعل ومن حيث المبدأ على القيام بكل ما تتطلبه عملية صناعة الطاقة النووية بما فيها خطوة تخصيب اليورانيوم الضرورية، وقادرة عملياً على مقاومة الضغوط ذات الطابع السياسي اذا ما أبدت الحنكة والتدبير اللازمين في ادارة النزاع الحقوقي والفني القائم بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ نحو سنتين حول بعض الملفات العالقة. كيف؟ ثمة خبراء تقنيون وحقوقيون ايرانيون يقولون ان الخطوة الأولى والأساسية في هذا السياق هي اصرار طهران على ضرورة الفصل بين الصفة التقنية والحقوقية لهذا الملف والذي يجب أن تبقى مرجعيته الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع العلم بوجود ضغوط مكثفة عليها خصوصاً من جانب واشنطن وبين المفاوضات السياسية التي تجري بين الفينة والأخرى مع أطراف عدة بينها المجموعة الأوروبية التي تسعى جاهدة الى ايجاد موقع قدم لها قوي في طهران من بوابة الملف النووي الايراني بحجة القيام بدور الوسيط مرة مع واشنطن وأخرى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بالمقابل فإن الدوائر السياسية والعسكرية الايرانية المتنفذة في مطبخ صناعة القرار الايراني لا تنفك من التشديد على ضرورة التلويح بالقوة العسكرية الايرانية الرادعة، خصوصاً في مجال الصواريخ الباليستية لإفهام واشنطن وتل أبيب أن الحق الايراني المكتسب ذاتياً في مجال الطاقة النووية غير قابل للمساومة مطلقاً وتحت كل الظروف. بين اولئك وهؤلاء يسعى الوفد الايراني"الذري"المفاوض مع الوكالة الدولية والمجموعة الأوروبية والمكلف بإجماع من القيادة الايرانية العليا الإمساك بالعصا من الوسط مستخدماً ديبلوماسية"حياكة السجاد"ذات النفس الطويل والتي وإن بدت في مراحلها المختلفة مبهمة أو غامضة أو معقدة إلا انها ستكون واعدة بعد الانتهاء من حياكة المربع الأخير الذي يفترض أن يظهر الصورة النهائية الزاهية. ومعنى ذلك في السياسة هو ان لا تستعجل طهران الحصول على كل ما تريد دفعة واحدة وفي زمن واحد، أي التوصل الى صفقة كاملة متكاملة شفافة تقفل الملف وتسدل الستار على كل الملفات العالقة الخاصة بالملف النووي الايراني! ان مثل هذا المنهج يتطلب تحمل القيادة الايرانية جهداً مضاعفاً لاقناع الأوروبيين والمجتمع الدولي بحقهم المشرّع له في اطار معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، أي امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية NPT. والصبر على من لم يقتنع منهم حتى لو تطلب الأمر سنوات عدة شرط ان لا يتم خلال تلك الفترة أي تراجع مبدئي بخصوص الحق القانوني لطهران بالتخصيب على رغم القبول الطوعي بتعليقه الى أجل قد يقصر أو يطول. في هذه الأثناء تكون طهران قد ثبتت البدائل الممكنة والمتوافرة دولياً في مجال الحصول على الوقود النووي اللازم من خلال اتفاقات محكمة مع روسيا أولاً اذ ثمة اتفاق مدته عام واحد وآخر تسعى الى انجازه مدته عشر سنوات ينتظر انجازه مع زيارة بوتين المرتقبة لطهران. وحتى يتحمس الأوروبيون لما يسمونه بالوساطة ولعب دور"المحلل"في"الصفقة"التي يتردد صداها في وسائل الاعلام والتي باتت تعرف باسم"المصالحة الذرية"، فإن طهران مستعدة لأن تعرض عليهم امكان المساهمة الفعالة والقوية في بناء مفاعلات جديدة تبدو ايران بحاجة اليها، متضمنة تزويد هذه المفاعلات بالوقود النووي اللازم. وهكذا تكون أوروبا، التي كانت حتى الأمس القريب متمنعة عن بناء المفاعلات النووية لايران بل انها انسحبت من مفاعل بوشهر الشهير الذي تلقفته موسكو، في موقع المفاوض الملحاح على طهران في المشاركة الفاعلة والمؤثرة لبناء قدرة ايران النووية للطاقة السلمية طبعاً. وبذلك تكون ايران في وضعية الطرف الذي يمد غصن الزيتون ويصر على عبثية المجابهة والتصادم مفضلاً إبقاء باب الحوار مفتوحاً على الدوام، لكنه الطرف الذي يرفع"العصا"الغليظة وهو يتحدث"بصمت"عن قدراته الردعية في مواجهة احتمالات جنون التصعيد الاسرائيلية المحتملة. وكأن طهران تطبق بذلك المثل الصيني الشهير:"تكلم بصوت منخفض وارفع عصا غليظة"، تماماً كما يفعل الأميركيون معها مستغلين القناة الأوروبية. الصواريخ البالستية المتطورة التي يحرص العسكريون الايرانيون بين الفينة والأخرى على الاعلان عن تجارب متجددة لها والتي يقول الرئيس السابق ورجل النظام القوي هاشمي رفسنجاني"ان مداها بات بحدود ال2000 كلم وان من يصل الى مثل هذه المَدَيات يستطيع عملياً ان يصل الى مَدَيات أطول"، كما حرص رفسنجاني على التذكير به وان يرفق ذلك باعلان مدوٍ عن ان طهران بصدد ارسال قمر صناعي الى الفضاء في العام المقبل وأنها باتت متقدمة في مجال تكنولوجيا الفضاء مقتربة من المعايير العالمية، كل ذلك يجعل ايران بالفعل أقرب ما تكون من لحظة انتزاع الاعتراف الدولي بحقها في عضوية النادي الدولي للتكنولوجيا النووية على رغم كل الضجيج الذي يصدر من واشنطن وتل ابيب عن خطر التسلح النووي الايراني المزعوم لا لهدف سوى لمنع ايران من انتزاع هذا الحق المكتسب ومحاولة دفعها لصدام غير مبرر وغير محسوب لعل في ذلك ما يحقق رغبة تل أبيب التي تضع نصب عينيها وأد المشروع النووي الايراني الوليد. * كاتب متخصص في الشؤون الايرانية.