منذ أكثر من ربع قرن لم يكتف سعد الدين إبراهيم بدور المثقف التقليدي في العالم العربي، بل شارك بفاعلية في صنع الأحداث. فجاءت مساهماته المهمة في نشر ثقافة حقوق الإنسان منذ أن شارك في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وساهم بفاعلية في نشر مفهوم وآليات المجتمع المدني، ثم تبنى قضية حقوق الأقليات عبر مؤتمره الشهير عام 1994 عن"الملل والنحل والأعراق في الوطن العربي"وكتابه الموسوعي بالعنوان نفسه. في مؤتمر تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان وفي مؤتمر الأقليات لم يجد عاصمة عربية واحدة تحتضن أياً من هذين المؤتمرين فكانت قبرص الملاذ الآمن بعيداً من مطاردة السلطات العربية وأجهزتها. وفي كل نشاط سعد الدين إبراهيم الفكري والبحثي يتوازى ويتناغم بدرجة كبيرة مع الأجندة الدولية واتجاهات المجتمع الدولي، ويعمل على نقل اتجاهات هذا المجتمع الاصلاحية الى المجتمعات العربية. وفي أيامنا، فان أوضاع العالم الإسلامي هي الشغل الشاغل للمجتمع الدولي منذ 11 أيلول سبتمبر، وفي مقدم الموضوعات المطروحة، الإصلاح الديني وإمكان إشراك الإسلاميين في الحكم في الدول الإسلامية وبخاصة العربية. نحن إذاً أمام موضوعين مختلفين يتبناهما مركز ابن خلدون وسعد الدين إبراهيم. الأول يتعلق بالإصلاح من التعليم إلى الخطاب الديني وهذا المحور محل اتفاق عالمي كامل ولا خلاف عليه، وهو موضوع متداول ومطروح في كل مكان في الغرب من الصحافة إلى مراكز الأبحاث إلى مراكز صنع القرار. والثاني إشراك الاسلاميين في الحكم، وهذا الموضوع محل مناقشات جادة وحيوية ومقارنات بين النموذج الايراني - الطالباني - السوداني، والنموذج التركي - الاندونيسي - المغربي. لعل بعضهم في الادارة الاميركية متحمس جداً للنموذج التركي او ما يسمى"تتريك العالم العربي"، وقد قوبل رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان منذ شهور بحفاوة في كل مكان حل فيه في واشنطن من مراكز الابحاث الى مؤسسات صنع القرار. نحن، إذاً، أمام موضوعين مختلفين الأول محل اتفاق تام، وهو ضرورة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، والآخر محل مناقشة وهو مساهمة الإسلاميين في الحكم. ويتبنى سعد الدين إبراهيم الموضوعين معاً، وهما من الخطورة بحيث أنهما جزء من اعادة تشكيل العالم العربي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، إما في طريق الإصلاح أو عبر الدخول في نفق مظلم يصعب الخروج منه. ومن ثم فالمخاوف تتزايد والمعارضة شرسة، لأنها ستضرب التحالف التقليدي بين المؤسسات العسكرية الحاكمة وبين السلطة الدينية التقليدية، بما في ذلك معارضة دعاة المجتمع المدني نفسه من أن تؤدي هذه التجربة إلى كارثة على الحريات والديموقراطية. في مقالته في"الحياة"7/10/2004 في عنوان"ديموقراطية النجاة... الاخوان المسلمون وحركتهم في الحياة السياسية المصرية"ذكر سعد الدين إبراهيم اسمي باعتباري من المنزعجين من دعوته الى إشراك الإسلاميين في الحكم من دون ضمانات كافية كفيلة بحماية الديموقراطية من مفترسيها، وشاركني في مقالته المخاوف نفسها. لذا فنحن متفقان أن من حق كل مواطن أن يشارك في السياسة في بلده ويعمل من أجل الوصول إلى أعلى المناصب السياسية بما في ذلك رئاسة الدولة. فهذه هي حقوق المواطنة كما تقرها الدساتير والمواثيق الدولية. كما اننا متفقان في مسألة البحث عن ضمانات حقيقية كاملة تحمي النظام السياسي والديموقراطي من التلاعب به والانقضاض عليه والتعامل معه كوسيلة وليس غاية. إشارة سعد الدين إبراهيم في عنوان مقالته إلى الاخوان المسلمين تعني أنه مهتم بهم على وجه الخصوص باعتبارهم الكتلة المتأسلمة الرئيسة في مصر وبعض الدول العربية، وباعتبار أن دمجهم في السياق السياسي المصري سيؤدي إلى دمج مماثل للحركات الإسلامية في معظم الدول العربية بحكم التأثير المصري في العالم العربي ووفقاً لنظرية الدومينو السياسية. وهنا نطرح سؤالين: أولاً، هل حدث تغيّر في سلوك الاخوان المسلمين في مصر يدعونا للتفاؤل الكبير؟ وثانياً ما هي الضمانات التي تقلل من المخاطر والمخاوف من مشاركة الإسلاميين في الحكم وتحمي النظام السياسي والدستوري والقيمي؟ ان التغيرات التي حدثت للإخوان المسلمين لا تدعو الى تفاؤل كبير، اذ أنها تغيرات طفيفة وتكتيكية لم تنل من صلب مشروعهم في إقامة الدولة الإسلامية. ولن نتحدث هنا عن التاريخ القديم للإخوان المسلمين ولكن ما يهمنا مشاركتهم الفعلية المعلنة في السياسة في شكل رسمي منذ عام 1984 بتحالفهم مع الوفد وحتى هذه اللحظة حيث لهم أكثر من 15 عضواً في مجلس الشعب ناهيك بالسيطرة على كثير من مفاصل المجتمع المصري. أولاً: مبادرة الاخوان المسلمين الأخيرة للإصلاح التي أعلنوها في آذار مارس 2004 هي في جوهرها ونصوصها مشروع دولة إسلامية في التعليم والاقتصاد والإعلام والسياسة. تقول الوثيقة"إن الغاية لدعوتنا هي الإصلاح الشامل لإقامة شرع الله ... ولا أمل لنا في تحقيق أي تقدم في نواحي حياتنا إلا بالعودة إلى ديننا وتطبيق شريعتنا ... وتتمثل المهمة إجمالاً في تكوين الفرد المسلم والبيت المسلم والحكومة المسلمة ... وتنقية أجهزة الإعلام من كل ما يتعارض مع أحكام الإسلام ... كما نؤمن بالنظام الاقتصادي الذي ينبثق من إسلامنا ... والتوسع في إنشاء الكتاتيب والحضانات مع التركيز على حفظ القرآن ... وتوزيع الدخل والثروة من خلال مؤسسات الزكاة ... وتولي المرأة المناصب في نطاق ما يحفظ عفتها وحيادها ... وضرورة أن تنبثق ثقافتنا من مصادرها الإسلامية". والسؤال: بماذا يختلف هذا المشروع عن ديموقراطية الوضع الإيراني، وما أطلقت عليه إيران أخيراً"الديموقراطية الإسلامية"؟ ثانياً: ان طلبات الإحاطة التي قدمها أعضاء الاخوان المسلمين في مجلس الشعب المصري منذ عام 1984 في معظمها ضد الحريات العامة من مطاردة الكتاب والمبدعين الى محاصرة الأزهر وشيخه المستنير وإثارة العامة حتى وصلت السطحية إلى مطاردة مغنية شابة أو طلب إحاطة بمنع القبل في الأفلام... وهلمّ جراً مما يبتعد عن مفهوم التنمية والتقدم والازدهار. ثالثاً: لم يصدر بيان واحد إخواني يدين تفجير المدنيين في العراق أو غيره من بقاع الارض التي عاث فيها الارهابيون فساداً، أو إدانة العنف في شكل فعلي ضد شركاء الوطن وصرف تعويضات لهم من أموالهم التي يدفعونها في النقابات، بل كل ما نراه من بيانات صادرة من الأخوان يصب في دعم الأصولية وفي توسيع ما يعرف ب"الاسلامية الدولية". رابعاً: تصريحات قيادات الاخوان المسلمين واضحة في إقامة الدولة الإسلامية، والوحدة الإسلامية والخلافة الإسلامية، ولا نرى لهم رؤية وطنية جلية في ما يتعلق بالدولة القومية. خامساً: أن مخاوف دعاة الحريات من انقضاض الاخوان المسلمين على الديموقراطية عبر صندوق الانتخابات لا تأتي من أوهام أو خيالات وإنما تصريحات زعماء الاخوان نفسهم تغذي هذه المخاوف، فكما قال المرشد العام السابق مصطفى مشهور:"نقبل بمبدأ التعددية الحزبية الآن ولكن عندما يقوم حكم إسلامي فإننا نرفضها أو نقبلها". رفعت السعيد ضد التأسلم. سادساً: إن سلوك وهيكل تنظيم الاخوان المسلمين ذاته غير ديموقراطي، وهم يصرخون نهاراً وليلاً مطالبين بالديموقراطية في حين أنهم تنظيم مغلق تغلفه السرية ويختار رؤساءه في المقابر ويسميها"بيعة المقابر"ولا يعرفون الديموقراطية ولا يقبلون التعددية داخلهم فكيف يقبلونها مع غيرهم وتجربتهم مع شركائهم في حزب الوسط تحت التأسيس خير دليل على ذلك. سابعاً: هناك فارق بين تبريد العنف في العالم الإسلامي وهو مسعى غربي راهناً وبين تسريع التقدم وهو طموح أو مسعى دعاة التقدم في العالم العربي. ان الدول الإسلامية التي تحدث عنها سعد الدين إبراهيم باعتبارها استطاعت التعامل بإيجابية مع الديموقراطية كل ما نجحت فيه هو تسكين العنف موقتاً عبر مشاركة الإسلاميين ولكنها فشلت في تسريع التقدم. هذا بعض من كم هائل من المخاوف التي تجعلني وصديقي العزيز سعد الدين ابراهيم نتحسس رؤوسنا اذا وصل الاسلاميون الى الحكم من دون ضمانات كافية. اننى اقدر للدكتور ابراهيم شجاعته ودأبه على تحريك المياه الآسنة فى النظام السياسي العربي، ولكن إذا لم تتم الامور بطريقة صحيحة ستكون ديموقراطية الخراب والدمار والقتل والظلام ونكون بحق كمن يلعب الكرة بقنبلة. أما التيارات الإسلامية الأخرى في الدول العربية فما هي إلا تنويعات مختلفة من الأخوان المسلمين. لذا فنحن أمام احتمالين: اولهما إذا طبقت هذه الأجندة بعد تسللهم إلى الحكم عبر هوجة مشاركة الإسلاميين وصناديق الانتخابات فنحن إزاء كارثة محققة، والاحتمال الثاني تهذيب هذه الأجندة عبر ضمانات صارمة تجعلهم لا يحملون من هذا المشروع سوى الاسم الإسلامي فقط ويعدل الجوهر ليصبح مشروعاً مدنياً مثل الأحزاب المسيحية الأوروبية. إن تجربة تركيا لا يصح القياس عليها في العالم العربي، فهي تجربة جاءت بعد 75 سنة من المجتمع المدني المتشبع بقيم العلمانية مع تماس أو تطلع دائم إلى جيرانه الأوروبيين، وفي الوقت نفسه تحمي علمانيته القوات المسلحة والدساتير والقوانين والممارسات الطويلة. كما ان تجربة تركيا إذا دلت على شيء فعلى أن المجتمع العلماني يسبق المجتمع الديموقراطي ويمهد له، وهذا هو الجدل الذي أثير في الغرب والشرق أخيراً حول الديموقراطية والحريات. ولعل كتاب فريد زكريا الذي صدر العام الفائت عن"الديموقراطية غير الليبرالية"يكشف الرؤية حول إن الديموقراطية التي ننشدها ليست نقل السلطة من العسكريين إلى المتمسحين بالدين، ولكن إلى المجتمع المدني الذي يفرز وعياً قادراً على اختيار مسؤولين حقيقيين يتبادلون السلطة وفقاً لشرعية الإنجازات ونشر الحريات واحترام قيمة الإنسان وتعزيز التوجه الحضاري والدخول إلى نادي الإنسانية الرحب. أصبح واضحاً كالشمس أن الديموقراطية الحقيقية تسبقها حريات، فالطرح الذي يختزل الديموقراطية في صندوق الانتخابات هو طرح خاطئ ومضلل وفي كثير من الأحيان مهلك. لكنّ الديموقراطية تعني وجود دولة مؤسسات، وتعني التربية والتنشئة السياسية، وتعني وضع الدين في مكانه الصحيح، وتعني احترام اختيارات الفرد منذ الطفولة، وتعني أن يكون الفرد حارساً يقظاً يدافع عن مكتسباته ولا يفرط فيها أبداً، وتعني الفصل الحقيقي بين السلطات، وتعني سيادة القانون، وتعني مباشرة الفرد لكل حقوقه السياسية. ولذا على الأخوان المسلمين وغيرهم من التيارات الإسلامية القبول بأسس المجتمع الديموقراطي الحر قبل الكلام عن مشاركة أو صندوق انتخابات. وعليهم القبول بالفصل التام بين الدين والدولة وبين العام والخاص، والقبول بفكرة الحريات الدينية كما ينص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والقبول بكل الحقوق السياسية وحقوق المواطنة لغير المسلمين وللنساء، والقبول الكامل بكل المواثيق والقوانين الدولية التي تدعم هذه الحقوق، والقبول بكل الحريات الفردية، وعلى ان الدولة الوطنية هي الأساس ومحل الانتماء الأول للفرد، والإيمان الكامل بحرية التعبير والإبداع والنقد والحق في إنشاء الصحف والإذاعات والتلفزيونات، والقبول بكل المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعتها مصر بما في ذلك القبول بمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ودعم السلام من أجل تسريع التنمية، والقبول بأسس التقدم كما تعرفها المجتمعات الغربية مثل الفردية والخصوصية والملكية الخاصة والاقتصاد الحر والانفتاح الايجابي على الآخر، والفصل التام بين السلطات واحترامها. إذا كنا نريد تشجيع التيارات الدينية الإصلاحية والتجديدية والحركات الإسلامية التي تريد أن تكون جزءاً من العملية الديموقراطية لا بد من القبول التام بشروط المجتمع المدني السابقة من ناحية ووجود ضمانات أساسية تحمي كل عناصر المجتمع من ناحية أخرى. وحتى تكون أكثر فاعلية لا بد من أن تكون ضمانات محلية وأخرى دولية. في ما يتعلق بالضمانات المحلية، فتتخلص في صوغ عقد اجتماعي جديد، يشمل كل أسس ومبادئ التعايش المشترك والمجتمع المدني والنظام الديموقراطي بما في ذلك تغيير الدستور ليناسب دولة ديموقراطية حديثة، وتوقع على هذا العقد كافة القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والرموز الدينية، وشخصيات عامة تمثل كل ألوان الطيف السياسي والديني والثقافي، على أن تراقب المحكمة الدستورية العليا هذا العقد وتتدخل في حال الإخلال به، وتكون القوات المسلحة وقوات الشرطة بمثابة حارس لضمان حماية هذا العقد بناء على توجيهات المحكمة الدستورية العليا، على أن توضع العملية السياسة برمتها تحت سلطة القانون والقضاء. ويشمل ذلك أيضاً مراقبة الانتخابات في ظل منح سلطات واستقلال حقيقي للسلطة القضائية. أما في ما يتعلق بالضمانات الدولية، فتشمل القبول برقابة دولية على هذا العقد الاجتماعي من المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في ما يتعلق بالانتخابات وأوضاع المرأة والأقليات والمجتمع المدني والتطور الديموقراطي. وإذا كان الغرب يسعى الى تقليص العنف في الدول الإسلامية عبر مشاركة فصيل الإسلاميين في الحكم، فنحن في هذه الدول لا نريد أن نقدم مجتمعاتنا بأكملها قرباناً على مذبح فكرة التجربة والخطأ، فالمسألة لا تحتمل التجريب. ففكرة إشراك الإسلاميين في السلطة الذي يحتمل أن يؤدي إلى انفرادهم بها يحتاج إلى مناقشة واسعة، ولعلنا هنا نفتح الباب أمام حوار واسع حول هذا الموضوع الخطير. كاتب وباحث مصري - واشنطن