رواية "بيروت 2002" هي آخر ما أصدرته الكاتبة اللبنانية رينيه حايك، بعد اصدارها الكثير من الأعمال الروائية منها: "بيوت المساء"، "البئر والسماء"، "العابر"، وبلاد الثلوج". والرواية الأخيرة تحمل اسم مدينة حملت اسمها روايات عدة من قبل، ربما اول ما يحضر الى الذاكرة روايتا "بيروت 75" و"كوابيس بيروت" لغادة السمان و"بيروت... بيروت" لصنع الله ابراهيم، و"بيروت مدينة العالم" لربيع جابر. في "بيروت 2002" تقدم الكاتبة عالماً روائياً متسربلاً في ظاهره بأحداث واقعية جداً مأخوذة من تفاصيل ذاتية لأبطال واقعيين يعيشون بيننا، ويمكننا رؤية ملامحهم والتعرف اليهم بسهولة، ما يمنح النص سلطة على القارئ عبر الايهام بأن الرواية هي الواقع وأن ما يحدث هو ادخال المؤلفة لبعض التحسينات على الواقع بحيث تبدو الحكاية مبسطة وسلسة كما لو أنها قصص متداخلة لأحداث من فرط بساطتها لم تستوقف أحداً. من هذا المنطلق تبدو "بيروت 2002" رواية مضمخة بألفة حقيقية لمن عرف بيروت عن كثب، لمن تعايش مع بيروتالمدينة مع شوارعها، ومقاهيها وحاناتها وأروقتها السرية، لا عبر المعرفة السطحية لها كمدينة سياحية، لذا تبدو بيروت في الرواية البطل الحقيقي للأحداث، انها القوة الخفية التي تحرك الأشياء من وراء حجاب العتمة. فقارئ هذه الرواية لا يمكنه إذا كان عرف بيروت حقاً إلا أن يتوقف ويتساءل عن علاقته بها، وعلاقته بالأماكن التي تذكرها الكاتبة. انطلاقاً من هذا التساؤل تقودنا رينيه حايك الى اعادة صوغ رؤيتنا للأشياء والأماكن عبر تقديمها صوراً وعلاقات وتفاصيل حية وحقيقية في اليومي المعاش لشريحة من المجتمع البيروتي، تفاصيل دقيقة من شدة ما هي قريبة باتت غير مرئية. وهنا تكمن اللعبة الروائية للمؤلفة: انها تأتي بالعادي والمتوقع، لتحوله حدثاً غير عادي، وغير متوقع، كما في كشفها شخصيات أبطالها وتعرية ذاكرتهم بلا رحمة. يبدأ فعل السرد في الرواية مع شخصية "رجا" الذي يشكل حلقة البداية والنهاية في النص. "رجا"، "فيليب"، "رلى"، "جوزيف" ثم "رجا" مرة أخرى، يتناوبون في عملية السرد باستخدام مرايا شفافة تعكس رؤية كلٍ منهم لوقائع حياته وعلاقته مع المحيط الزماني والمكاني. وان كان "رجا" و"رلى" و"جوزيف" يرتبطون معاً في انتمائهم الى الحقبة الزمنية والمكانية ذاتها كونهم متقاربين سنّاً ويدرسون في الجامعة الأميركية، فإن فيليب "وهو جد رجا لوالده، يخل بهذا السياق الزمني، ليبدو منفصلاً في حديثه عن عوالم أخرى ربما لكشف تفصيلات من حياة "رجا" لا يتم ذكرها عبره مباشرة، لكن التكنيك الروائي الذي تعمدته الكاتبة يرجح احتمالاً آخر في استخدامها شخصية الجد للحديث عن زمن آخر من أزمنة "بيروت". فالجد هنا هو الأمس، هو الماضي، هو بيروت في الذاكرة كما كانت لا كما هي الآن، ليست "بيروت" تحديداً، بل "لبنان" كله في الحقبة التي سبقت الحروب. فالرواية في الأسطر الأولى تنفتح على حال ألم وفوضى واضطراب وعبث مفرط يوجز العبث الداخلي الذي يعيشه الأفراد في بيروت 2002، يقول رجا في أول جملة له في النص: "ألم قوي في خاصرتي يوقظني. كأنني نائم فوق حجر مروس. أسحب فردة جزمة نسائية نمت فوقها ولم أنتبه. أتأمل السقف الواطئ للحظة. أشيح بوجهي الى طرف الفراش. كارولين قربي، تحدث شخيراً خافتاً. سونيا أيضاً نائمة عند طرف السرير، أزاحت عنها الغطاء كاشفة عن جسمها كله". يوجز مطلع الرواية الحال التي عليها الأبطال، والتي تستمر على مدار الصفحات، ولئن كان يغيب ذلك في شخصية الجد، فإن حال القلق المختبئة بين السطور هي سمة عامة للأبطال، يشتركون فيها مع اختلاف الأسباب وتباينها. يعاني "رجا" فشلاً في دراسته، وتنقله بين أكثر من اختصاص، من دون أن يجد في نفسه ميلاً الى كل التخصصات التي درسها، أحب "رجا" رياضة كرة القدم، كما يحب الموسيقى، لكنه لم يفكر بدراستها أبداً، لم تكن هذه الدراسة لترضي طموح جده وجدته اللذين توليا تربيته بعد وفاة والديه في حادث سير على طريق الجبل. يعيش "رجا" حياة فارغة من المعنى الحقيقي، يحس بذلك لكنه لا يقوى على مواجهته. في داخله فراغ كبير، لا يعوضه الأصدقاء، ولا تردده على المطاعم والحانات، ولا العلاقات العابرة التي يقوم بها مع الفتيات بين حين وآخر. لعل أبرز ما في شخصية "رجا" هو الشجن العميق الذي يخفي وراءه الاحساس باليتم، والحاجة الملحّة الى الحب، يقول: "كيف أنجو مما أنا فيه؟ أشغل كل وقتي. أخرج الى المطاعم والسينما والحانات، أوافق على مشاركتهم كل مشاريعهم: التزلج، الرحلات، الصيد، لا فارق". هذا هو المدار الذي يتحرك فيه "رجا"، مدار من التساؤلات والبحث غير المجدي عما يقوده الى داخل ذاته أكثر، لكن عبثاً تبدو الوسائل المنتهجة في هذه الرحلة النفسية، مكررة، وروتينية، لا تملك تأثيراً فاعلاً لتجليات أكثر عمقاً. إذ ثمة خلل ما، ثمة فجوة جوانية لا يتم التعبير عنها إلا بالهروب منها أكثر. جوزيف يدرس الطب، ويشكو من هواجس صحية، وكوابيس مرعبة، يلاحقه التفكير ب"جنون البقر" الذي سيصيبه من جراء تناوله "قطعة بفتاك"، أو السرطانات التي ستسري في جسده من تفاعلات الزيت مع البطاطا المقلية. يعيش "جوزيف" هذه الهواجس حد اصابته بخلل نفسي، لكنه لا يراه خللاً، يصنفه ضمن دائرة الحذر والمحافظة على الصحة. لا يكتفي جوزيف بقلقه الداخلي، بل يبثه الى أصدقائه أيضاً. يقول لرجا: "أتعلم؟ هناك فيروس ينتقل باللعاب ويقطع الشهية، يرهق الجسم، يرفع الحرارة، ثم يضرب الكبد". أما "رجا" الذي يلاحظ هوس "جوزيف" وكثرة تردده على الحمام لغسل يديه، فيصفه بقوله: "لو ارتدى جوزيف القفازات لسهل عليه العيش". تظهر "رلا" كشخصية غامضة وغير مفهومة في حديث "رجا" عنها، إذ لا يبدو من ملامحها النفسية ما يمكن أن يتم التكهن عبره بالنهاية الموجعة التي تصل اليها. ففي حديث "رجا" عنها، تبدو "رلى" طالبة الأدب الانكليزي فتاة غير تقليدية، مثقفة، تقرأ باستمرار، وان كان يثير التساؤل نحوها ظهورها في أوقات غريبة، وزيارتها له بعد الحادية عشرة ليلاً. لكن "رجا" يحس بعاطفة ما نحوها، شيء من الحب يدفعه لانتظارها، وترقب اخبارها، نوع من الحب الصامت لا يفضي الى أي نتيجة، لأن "رلى" تائهة في عوالمها الضبابية، التي تلاقي حتفها فيها. تحيا "رلى" بالعقاقير المخدرة وتدمن "الكوكايين"، تعيش في أسرة مكونة من أمها واختها الصغرى "لورا"، والدها مسافر الى السعودية، ولا يأتي إلا مرة في العام، أمها لا تسألها عن مبيتها خارج البيت إلا قبل قدوم والدها من السفر. تتعرف "رلى" الى وليد، تتوهم حبه، يقودها هو الى الإدمان، وتكون نهايتها في جرعة زائدة. تلك النهاية التي كانت مفاجئة لكل من "جوزيف" و"رجا". يقول جوزيف: "الجامعة صامتة إلا من سيارات الأمن. الجميع نيام حولي تقريباً، أجلس على المقعد الخشب، أتذكر جلوس رلى على الطرف الثاني من هذا المقعد، لم يكن فقر دم إذاً، لماذا لم تقولي لي؟". أما شخصية الجد "فيليب" فتحضر في النص مشكلة جسر التواصل بين زمن مضى، وزمن مستمر. "فيليب" الطبيب الذي بلغ الثمانين من عمره يعاني أمراضاً وقلق نهاية العمر، بعد أن انتهى به المطاف وحيداً، بعد وفاة زوجته "آني" وسفر ابنته المستمر، وعدم استقرارها في الزواج. يحكي "فيليب" عن ذكرياته في "ضهور الشوير"، حيث يصير بيت "ضهور الشوير" عنصراً دلالياً يرمز الى الزمن الماضي، زمن الجد والجدة، زمن أهل "رجا" الذين كانوا أحياء في يوماً ما. سلطة المكان والزمان تحمل الرواية بجلاء مؤشراً دلالياً قوياً في التأريخ لزمان ومكان معينين. انها بيروت في 2002. فالرواية هنا لا تنطلق في فعل القص من الماضي، تأريخاً لأحداث معينة، ما عدا شخصية الجد الذي يقوم بسرد وقائع ماضية من حياته. لكن سيرورة الحدث في النص تقوم على رصد بيروت كمكان في عام 2002 إذاً، في امكاننا تحديد حاضر القصة زمنياً على مستويين داخلي وخارجي، حيث يتحدد هذا الحاضر داخلياً عبر تضمين عملية "الحكي" للزمن نفسه الذي تم اختياره عنواناً للرواية. ان تحديد الحاضر هنا ممكن على مستوى ما يأخذه من علاقات بين القصة والخطاب على مستوى عام، لكن هذا التفصيل يشترط تحليلاً خاصاً لكل المقاطع السردية، من خلال ربط ما هو عام بما هو خاص. أما سلطة المكان فتنبني على ذكر أماكن معينة والتأريخ لها من خلال العلاقة القائمة والتفاعلية بينها وبين الأبطال، فالمكان هنا له حظوة مميزة في ذاكرة النص، انه النسيج الحقيقي واللحم الحي للحدث. فالمكان مرئي للقارئ من دون جهد، يحرك الذاكرة بشغف وحنين لا يقاوم للتفاعل معه، لاستعادة تفاصيله، تذكره، الاحتفاء به، وكما قلت في بداية النص هذا يحدث لمن يعرف بيروتالمدينة الأم، لا المدينة الساحرة فقط.