قد يرى البعض في معرض فرانكفورت صورة مريحة عن الحوار مع الآخر، وصورة موازية عن الأنا المستريحة التي تحاور غيرها. يشيع الرأي هذا، نظرياً، الرضا وينشر التفاؤل، ذلك أن في الحوار بين طرفين اعترافاً متبادلاً بينهما، واعلاناً عن جهد ثقافي مشترك لتوليد حقائق جديدة. غير ان في الرأي ما يعكّر صفوه، لا بسبب نقص في البلاغة، بل بسبب تلك الكلمة الصغيرة التي هي "المعرض"، التي تشير الى عرض ثقافي متعدد الألوان من دون أن تقول، لزوماً، بحوار ثقافي شأنها شأن الأحزاب السياسية في بعض البلدان، التي لا تترجم حياة حزبية، بل تحوّل السياسة الى عرض بلاغي، يحجب معنى الأحزاب والسياسة معاً. إذا كان معرض فرانكفورت يحيل، شكلانياً، على المثقفين والحوار الثقافي، فإن تأمل الحوار الذي جرى على هامشه، وهو محدود جداً، يصرّح بصعوبات الحوار قبل أي شيء آخر. وصعوبة الحوار مستقلة عن قدرات المتحاورين ونياتهم، لأنها وثيقة الصلة بسببين يتجاوزان الإرادات الفردية: أولهما اللاتكافؤ الثقافي، الذي يفصح عن ثقافة أولى متنوعة متعددة متراكمة، ويستدعي أخرى أقرب الى التجانس والثبات، مشدودة الى زمن تحررت منه الثقافة الأولى منذ قرون. ولهذا لن يستطيع المحاور العربي، وهو يستمع من محاوره الى ملاحظات حول مدرسة فرانكفورت ومدرسة كونستانس لعلم جمال الاستقبال، أن يقول شيئاً كثيراً، لأن مفهوم "المؤسسة النقدية" لا يزال يحبو في حقل النقد الأدبي العربي. ولن يختلف الأمر إن لامس "الآخر" اجتهاداته الفلسفية في القرن العشرين ناطقاً بأسماء هوسرل وهيدغر وياسبرز وصولاً الى بلومنبرغ وهبرماس، تاركاً محاوره العربي يلتمس الأعذار ولا يقدر الاجابات. وقد يدخل الحوار في اضطراب كبير، حين يضع المحاور العربي الجرجاني في مواجهة فالتر بنيامين، أو يهرع الى الفارابي وابن سينا والكندي ليواجه الأسماء الألمانية التي وضعت: "أزمة العلوم الأوروبية" و"الوجود والزمان" و"شرعية الأزمنة الحديثة" و"أفول العقل". يتوحد المحاور الألماني بزمنه الحديث ويكون حداثياً، على خلاف محاوره العربي الذي يراصف أزمنة غير متجانسة يصرف بعضها بعضاً... لهذا كان عادياً ومنطقياً أن يقول لنا مؤرخ أدبي ألماني مرموق: لماذا الحديث عن هيدغر، انكم تحتاجون الى الفيلسوف "كانط"!! بيد أن في الإجابة الصحيحة ما يترك المحاور العربي مؤرقاً ومنكمشاً، ذلك ان "كانط" عاش في القرن الثامن عشر، وتصبح الإجابة الصحيحة أكثر إحراجاً حين يشير الأكاديمي الألماني الى مقالة "كانط": "ما هو التنوير؟"، التي تضع في الفم العربي مذاقاً شديد المرارة. تأتي صعوبة الحوار الثانية من صورة العربي في الوعي الثقافي الأوروبي ولا وعيه في آن. والصورة، كما يشهد الحوار المرتكن الى نيات تحتفي بالحوار، جاهزة حيناً أو يطغى فيها الجاهز على المحتمل والمجهول في أحيان أخرى. والصورة، جاهزة كانت أو قيد التشكل، تساوي بين الإنسان العربي و"الإنسان الديني"، لا بمعنى اعتناق العربي ديناً معيّناً، بل بمعنى انغلاق العربي في معتقده الديني، بما يجعل من قوله وفعله وابداعه امتداداً لوعيه الديني، أو خروجاً عليه، كما لو كان العربي لا يحتمل إلا بصعوبة ما يرتبط بالدنيوي والعقلاني والعلمي، أي كل ما لا يحرسه المقدس ولا يرعاه. في شرط كهذا يكون العربي هو لغته، وتكون لغته مرآة دينه، ويكون ابداعه مرآة لوعي ديني قوامه لغة مقدسة. يدور العربي حول ذاته ويظل كائناً دينياً، ويدور ابداعه حول ذاته موزعاً على الشعر، وقد قديم، وعلى دين قديم يجعل المنظور الشعري دينياً. كأن الإبداع العربي كله اعادة انتاج لتصور ديني للعالم، يتوسل لغة مقدسة، لا تأتلف كثيراً مع ألوان الكتابة الحديثة. عندها سيتحدث الشاعر المغربي محمد بنيس عن تاريخية اللغة العربية، مؤكداً التهديد الذي يقع عليه اليوم، سواء جاء من فرانكفونية نخبوية تعترف بالعربية ولا تفكر بها، أو جاء من لغة العولمة المسيطرة، التي هي اللغة الانكليزية. وعندها أيضاً سيتكلم المغربي الآخر: عبدالسلام بنعبدالعالي، بلغة لا تنقصها الفطنة والفتنة، عن "لعنة الترجمة"، لا بمعنى ان الترجمة قائمة في جميع الصور، شاءها الإنسان أم أدار لها ظهره، بل بمعنى أكثر اتساعاً، يقرّر صعوبات الترجمة قبل أن يتوقف أمام مفاتيحها المراوغة. يفضي الحوار، المعوّق بصعوبات الحوار، الى حديث مدرسي يؤسس، إن استمر، بدايةً محتملة لحوار حقيقي. فالشعر العربي، الذي لا يراه "الآخر" إلا دينياً، كان موجوداً ومزدهراً في صورته الجاهلية، التي ظلت، طويلاً، مثالاً للشعر الذي أعقبه، كما دلّل أدونيس في كتابه "الثابت والمتحوّل". واللغة العربية، التي يرى "الآخر" فيها نصاً دينياً، توجد في صيغة الجمع لا في صيغة المفرد، مقدسة هي في القرآن الكريم ومبتذلة في الحديث اليومي، كما أشار طه حسين، منذ عقود، في كتابه "في الأدب الجاهلي"... ولا جديد في القول ان يقف القارئ على آثار "إيليوت" في نص بدر شاكر السياب قبل أن يقف على آثار دينية، وأن يرى ملامح من جاك بريفير في قصيدة نزار قباني، ولن يكون منظور محمود درويش الشعري إلا أثراً لتجاربه واجتهاده وثقافته المتعددة المصادر... والأمر كله، مهما تكن نيات "الآخر"، وهي طيبة، يقوم في تصور جوهراني ل"عقل عربي"، أحادي البعد ثابت الصفات متناتج بلا اختلاف، يتجلى في وجوه تطيع الجوهر ولا تتمرد عليه. ومما يثير الفضول أن يكون عقل الآخر تاريخياً، وهو يتأمل حاضره وماضيه، وأن يتخفف من تاريخيته حال اقترابه من "الظاهرة العربية"، كما لو كانت تُقرأ خارج التاريخ لا داخله. ومن الغرابة أكثر أن يقرأ "العقل الآخر" عقيدته الدينية بمعايير تاريخية، وأن يقرأ "الثقافة العربية" بمعايير دينية، مفترضاً ان الزمن العربي منعزل عن الأزمنة الكونية، ومفترضاً أكثر "استقلالاً ثقافياً عربياً"، لا معوّقات له ولا حرّاس عليه. شيء غير بعيد من ثنائية الشرق والغرب البعيدة، على رغم فضاء حواري أنيق لا تنقصه الموادعة والمؤانسة. لن يكون الإبداع العربي، في حوار يفتح نافذة ويوصد أخرى، إلا ذاك المترجم الذي اصطفاه المترجمون وارتضوا به. كأن المترجم "رضوان" حديث يأخذ صاحب النص المترجم الى "الجنة" ورياض الاعتراف، ويدع ما لم يُترجم في فيافي المقدس الشرقي القديم. وقد يأمر العقل الموضوعي بشكر هؤلاء المترجمين الذين يضعون نصاً عربياً في متناول قارئ غير عربي، من دون ان يعني ذلك قط أن ما يحتفي به المترجم يحتفي به القارئ العربي، وأن معايير الأول الأدبية تنسجم، موضوعياً، مع معايير النظرية الأدبية. فالمترجم الذي ينبغي شكره يقاسم، أحياناً، "القارئ الآخر" وجهات نظره الخاصة به، التي تضع "رفيق الشامي" فوق نجيب محفوظ، على سبيل المثال، من دون أن يمنع هذا وجود قارئ متميّز يرى في السوري "عادل قرشولي" شاعراً كبيراً يحاور، بخصب مبدع، الثقافة الألمانية بأفضل ما جاءت به الثقافتان: العربية والإسلامية معاً. تتراءى من جديد سلطة الأقوى، التي تقرّر الوقائع والأحكام. فبعد أن أصبح الشعر العربي الحديث مرآة للمقدس ومرتعاً له، يصبح النص العربي المنقول الى "لغة قوية" مرآة للمترجم وللقارئ المترجم له، وهو ما يفسّر الاحتفال ب"نصوص نسوية عربية"، لا تعني شيئاً كثيراً للقارئ العربي. مهما تكن الأسئلة التي يثيرها الحوار مع الآخر، فإن في الأخير فضيلتين جوهريتين جديرتين بالإشارة اليهما وبالإشادة بهما: ذلك النظام الدقيق والترتيب الأدق الذي يعلن، في تفاصيله الصغيرة والكبيرة، عن احترام الوقت ومعنى الحوار واحترام المشاركين فيه، والتعامل مع الأمر كله كمشروع جدي، تنبغي متابعته واستكماله. ربما يكون معنى النظام متكأ لقراءة "النشاط الثقافي العربي"، أو مرآة صقيلة تنصح العربي بألاّ ينظر اليها، حفاظاً على إحساسه وحرصاً على أوهامه الذاتية. أما الفضيلة الأخرى فيمكن أن تدعى ب"التسامح"، أو "الإنسانية الثقافية"، ذلك أن تساوي الشعوب، نظرياً، في الحقوق والواجبات، لا يعني أبداً تساوي الثقافات الإنسانية. لا تشير هذه الملاحظة، من قريب أو بعيد، الى أسطورة الجوهر العربي المزعومة، فالعربي مبدع كغيره، بل تشير الى تاريخ عالمي حديث قال ب"الإنسان المتحرر الشامل"، واعتبر ان الإنسان الجدير بصفته هو "الإنسان الغربي" لا غيره. عن هذا التاريخ، الذي حرر طرفاً وقيّد آخر، تصدر كلمة "التسامح" التي تحمل في أعطافها، ربما، شيئاً من "النقد الذاتي"، التي لا تسعف "الأضعف" إلا إذا نقد ذاته وأدرك أن قامات الثقافات ليست متساوية، في جميع العصور.