لولا بقايا نظرة "مركزية غربية"، يأخذ بها أبناء النصف الشمالي للكرة الأرضية، كما مَن يناصبونهم العداء ويدينون هيمنتهم أو يعتقدون ذلك، لعُدّ التوافق الهندي-الباكستاني الأخير بشأن تذليل الخلافات بين البلدين والتوصل إلى حل للنزاع الدائر بينهما منذ عقود حول كشمير، تحولا أساسياً، بل ربما التحول الأساسي، في إرساء نصاب عالمي جديد. فالتوافق ذاك يَعد بوضع حد لأحد أخطر النزاعات القائمة على وجه الأرض، ليس فقط لأن البلدين الضالعين فيه قوتان نوويتان من خارج النادي النووي "الرسمي" وقد يكونان، تبعا لذلك، في حل من بعض التزامات أعضاء النادي ذاك ومما يترتب على انفرادهم بامتلاك وسائل إفناء الجنس البشري من مسؤوليات، بل أيضاً لسبب آخر، فربما كان أخطر ما في ذاك التوافق أنه بالغ التعقيد، طالما أنه أكثر من مجرد نزاع حدودي بين دولتين، إذ يكتسب في بعض أوجهه بعدا "أهلياً"، يزيده استعصاء ويمعن في تأزيمه، على اعتبار أن الباكستانيين ليسوا غير هنود انفصلوا عن "بني جلدتهم" وتميزوا عنهم في كيان قائم الذات على أساس الإنتماء الديني. وهذا ما يجعل "الصفاء" الباكستاني يبدو بمثابة الدحض للتعدد الذي تقوم عليه الهند ليلوح، في المقابل، بمثابة التسفيه للانفصالية الباكستانية، ولكل انفصالية أخرى محتملة قد يحبل بها بطن شبه القارة الخصيب بألف تمايز وتمايز. وما زاد من استفحال ذلك النزاع الهنديالباكستاني، عدا عما أفضى إليه من سباق على امتلاك أسلحة الدمار الشامل بين البلدين، وهو في حد ذاته أمر بالغ الخطورة، أن نهاية الحرب الباردة، تلك التي كان النزاع ذاك بعضا من حلباتها الطرفية أو الهامشية، قد أكسبته مركزية غير مسبوقة، فزادت من خطره وأججت عناصر التهديد الكامنة فيه، لتتجاوز الإقليم إلى القارة وهذه الأخيرة إلى العالم في نهاية مطاف ما. إذ أن المواجهة الهندية-الباكستانية سرعان ما اندرجت ضمن أوجه توتر باتت القارة الآسيوية بؤرتها أو خلاصتها: فهي قارة الاكتظاظ الديموغرافي حيث تمثل الصينوالهند بمفردهما نحو نصف سكان العالم والسلاح النووي وأعلى وتائر النمو الاقتصادي ومركز ثقل الجهادية الأصولية الإسلامية من وسط آسيا إلى جزر المحيط الهادئ، والقوى الإقليمية الصاعدة، مع ما يعنيه كل ذلك من تجابه الطموحات والحسابات. وكان النزاع الهنديالباكستاني مرشحا للاضطلاع بوظيفة الصاعق الذي يمكن تشغيله في أية لحظة لتفجير ذلك الوضع البالغ الاحتقان والتوتر طالما أنه قابل، من حيث طبيعته أو من حيث مركزيته المُكتسبة، أن يكون نقطة تقاطع كل أزمات المنطقة، من المنافسة الهندية-الصينيةوبكين كانت حليفا وثيقا لإسلام أباد إلى الأصولية الجهادية التي قد تصطفي كشمير ساحة لإحدى مبارزاتها الفاصلة بين "فسطاطي" الكفر والإيمان، إلى السلاح النووي الذي يمكنه، في نزاع مفتوح كذاك، أن ينزلق من وظيفة الردع "النظرية" إلى وظيفة الاستخدام الفعلي. وفي خلفية كل ذلك، بطبيعة الحال، الولاياتالمتحدة، كذات فاعلة أو كقُوة تُستدرج، إن بالاصطفاف ضدها أو إلى جانبها... لكل ذلك، يُحسب للتوافق الهنديالباكستاني الأخير أنه شكل خطوة أساسية نحو نزع فتيل نزاعهما، وإن توقف الأمر راهنا عند إعلان النوايا، دون استباق نتائج مداولات ومفاوضات بين الطرفين ستكون بالتأكيد طويلة ومضنية، لكنها ستكون شاخصة نحو التوصل إلى اتفاق في كل الحالات. ذلك أن الأمر لا يتوقف على حكمة القيادة في البلدين، بل يعود كذلك إلى إملاءات يفرضها واقع الحال. وواقع الحال هذا لا يبدو، لأسباب عدة، مشرعا على مزيد من توتير، أو على إرساء وضع على منوال ذلك الذي كان قائما في القارة الأوروبية أثناء حقبة الحرب الباردة. فالقوى الكبرى على الصعيد الإقليمي، لا تحبذ توخّي استراتيجية التوتير، أو لا تريد استعجالها. والهند لا تنظر إلى نزاعها مع باكستان في بعده الثنائي البحت، بل تقدر تبعاته الدولية، ناهيك عن أن اتفاقا يُفضي إلى تجميد النزاع على كشمير في وضعه الترابي الراهن، على ما هو مرجح، قد لا يمثل بالنسبة إليها تراجعا أو هزيمة على عكس ما هي عليه الحال بالنسبة إلى باكستان، هذا في حين أن الصين منصرفة إلى تنميتها الاقتصادية وإلى بناء قوتها، وترى بأن استقرار المنطقة عامل حاسم في ذلك. وهي لا تريد أن تدخل في سياسة مواجهة، إن على الصعيد الإقليمي وإن على الصعيد الدولي، على ما دل سلوكها خلال السنوات الأخيرة، حيال الحرب في أفغانستان كما حيال الأزمة العراقية. بل يبدو أن بكين كان لها دورها الفاعل في حث الهندوباكستان على الإقدام على تقاربهما الأخير. أما الجهادية الإسلامية فهي، على عنفوانها، طاقة "سلبية"، بمعنى أن فعلها يتوقف عند القدرة على زعزعة الأنصبة القائمة. وهي، لذلك، عاجزة لأسباب فيها بنيوية وأصلية، عن الاتّساق في استراتيجية مواجهة منتظمة ومعقلنة، وعن اكتساب الحلفاء... هذا ناهيك عن أن دول المنطقة لا تتوزع على تحالفات حدّية واضحة المعالم بل ان تحالفاتها باتت متلبّسة ومتعددة الأبعاد أو المستويات. فباكستان، خصوصا منذ 11 أيلول سبتمبر 2001، بات تحالفها مع الصين نسبيا، وذلك شأن علاقتها بالولاياتالمتحدة، في حين سعت هذه الأخيرة إلى توثيق علاقاتها مع الهند وربما إلى تبجيلها. أما واشنطنوبكين، وإن فرقت بينهما دواعي القوة والنفوذ، فإن متطلبات الشراكة بين أكبر اقتصاد على وجه الكرة الأرضية وبين أكثر اقتصادات العالم نموا، تؤلّف بينهما. بكلمة واحدة، ما قد يحول دون عودة الحرب الباردة إلى آسيا أو انطلاقا منها، أنه حيث يوجد الوازع الإيديولوجي كما لدى الجهادية الإسلامية تنعدم القوة، وحيث تتوافر القوة كما لدى الدول الأساسية في المنطقة، ينتفي الوازع الإيديولوجي، على عكس ما كانت عليه الحال إبان الحرب الباردة حيث كان هذا يلازم تلك. لذلك، فالتوافق الهنديالباكستاني الأخير، بقدر ما يمثل خطوة حكيمة يقبل عليها قادة البلدين، يمثل كذلك مآلا شبه "حتمي" مع كل التحفظ على خطاب الحتميات لوضع إقليمي، ودولي استطرادا، تلك مواصفاته، على الأقل بالنسبة إلى القادرين على استقرائه واستخلاص نتائجه. وهو ما ترفده التطورات الأفغانية الأخيرة، مع نجاح "اللويا جيرغا" في اجتراح دستور جديد واعد، على علاته الكثيرة، بإرساء حكم تعاقدي، تتمثل فيه كل فئات الشعب الأفغاني، لا سلطة ينفرد بها من غنمها، قسراً وبقوة السلاح. آسيا، إذاً، وهي لب التوتر على الصعيد الدولي راهناً، تبدو آيلة إلى ضرب من تهدئة، وهو ما يمكنه أن يُعدّ بشكل من الأشكال نجاحا أميركيا، كان لحرب أفغانستان بعض الدور في تحقيقه. لكن اللافت في النجاح ذاك أنه يمثل دحضا دامغا للمحافظين الجدد ومقارباتهم الانفرادية واستراتيجيات كتلك التي جربوها، ويجربونها، في العراق، طالما أن الدستور الأفغاني الجديد سُنّ تحت رعاية الأممالمتحدة، وأن التقارب الهنديالباكستاني شجعت عليه قوة بحجم الصين أو أنها، في الحد الأدنى، لم تعرقله.