هذه الذكريات تضيء جوانب من شخصيتي مؤسس جماعة الاخوان المسلمين حسن البناء، وأحد قادتها الذين حوّلوا مسارها سيد قطب. 1- سيد قطب تشرين الاول /أكتوير 1906 - آب / أغسطس 1966 "يا سلام يا حسين! كلمات جلستُ إليها وأغمضتُ عيني، خيّل إليّ أني جالس إلى سيد قطب! الصوت نفسه، النبرة نفسها، اللهجة والطريقة في الحديث نفسها، شيء غير معقول!". كذا كان زوج أختي عبدالعزيز عتيق يقول لي، وهو ما أكده غيره أيضاً في ما بعد، غير أنني لا استطيع أن أحكم بنفسي، خصوصاً أنني لم استمع قط إلى تسجيل لصوت سيد قطب، وأنني لم ألتق به إلا وأنا في الثامنة أو التاسعة من العمر حين كان صوتي بالتأكيد مختلفاً عما أصبح عليه بعد ذلك. كان سيد قطب - على نحو ما ومن دون قصد منه - سبباً لأكثر أيام دراستي مجداً!. كان صديقاً حميماً لزوج أختي وهو الذي اقترح على عبدالعزيز عتيق - حين قرر الزواج - أن يتقدم لخطبة إحدى ابنتي أحمد أمين، ثم كان أن بات يتردد على دارنا لزيارة أبي في صحبة عتيق، وكان الاثنان وقتئذ يصدران من حين الى آخر سلسلة من الكتب تحت عنوان "المحفوظات الجديدة"، كل منها يحوي مجموعة من القصائد التي يسهل على طلبة المدارس الثانوية قراءتها، وفي آخره تمثيلية شعرية طويلة من ثلاثين الى أربعين صفحة عن أحد أبطال المصريين أو العرب، كرمسيس الثاني، أو عبدالرحمن الداخل، أو الناصر صلاح الدين، أو رفاعة الطهطاوي. وإذ لمسا مني إقبالاً على قراءة السلسلة وحفظ عدد من قصائدها، قال لي سيد قطب يوماً: - إن أنت حفظت تمثيلية "صقر قريش" كاملة أعطيتك خمسين قرشاً. وكان أن حفظتها وأخذت القروش الخمسين منه، ثم حدث خلال السنة الأولى من دراستي بالمدرسة النموذجية الثانوية، أن أعلن مدرس اللغة العربية أنه اختار لفصلنا تمثيلية "صقر قريش عبدالرحمن الداخل" لتمثيلها في حفلة نهاية السنة الدراسية، ثم قال إنه سيقرأها علينا أولاً ثم يوزع الأدوار. وإذ بحث في أوراقه عن الكتاب ليقرأ منه، تبين أنه نسيه في حجرة المدرسين، فأمر أحد الطلبة أن يحضره من مكتبه هناك، غير أنني أسرعتُ بالوقوف لأعلن بلهجة غير المكترث أنه لا حاجة لإحضار الكتاب نظراً إلى أنني أحفظ التمثيلية برمتها. - تحفظ ماذا برمتها؟ - التمثيلية. - تمثيلية "صقر قريش"؟ - نعم. - تحفظها كاملة؟ - نعم. وحدجني المدرس والطلبة بنظراتهم بينما ثبّتُّ عينيّ على القمطر أمامي. - فلنسمعها منك إذاً. - تمثيلية صقر قريش تأليف سيد قطب وعبدالعزيز عتيق، الفصل الأول، تُرفع الستار عن عبدالرحمن الداخل جالساً مُطرقاً محزوناً في حجرته، يدخل عليه خادمه بدر. وعهد المدرس إليّ من دون تردد بدور عبدالرحمن، الى جانب مهمة الملقن لسائر الممثلين. من اصل هندي؟ لم يكن ثمة ما يوحي في تلك الفترة من حياة سيد قطب - وهو الذي يقال انه من أصل هندي - بنزعة إسلامية متطرفة أودت بحياته في نهاية المطاف، كان أديباً قصصياً، وشاعراً من تلاميذ عباس محمود العقاد ومن المدافعين عنه ضد انتقادات محمد سعيد العريان واسماعيل مظهر، يدعوه "إمام المدرسة الجديدة في الشعر"، غير أنه كان ناقداً أدبياً من الطراز الاول، وهو ما يجعلني كلما تذكرت الآن تحوّله بكليته الى النشاط الإسلامي وتفسير القرآن والى العداوة الضارية لمجتمعنا "الجاهلي" أفكر في حسرة نيتشه على تحول باسكال من العلوم الرياضية الى الدين. لم يكن قبل سفره العام 1948 الى الولاياتالمتحدة لدراسة ادارة التعليم يختلف كثيراً عن غيره من الادباء والشعراء، لا في نمط حياته ولا في أسلوب تفكيره، بل ولا عُرف عنه وقتها تمسكٌ صارم بأهداب الدين، لم يتزوج قط غير أنني اعرف ان صديقه عبدالعزيز عتيق، بعد زواجه من اختي، أراد أن يرد له الجميل او الانتقام منه! فسعى في أمر تزويجه، وعرفه بفتاة من اسرة غنية اعجبته، وتقدم الى أهلها لخطبتها فلم يقبلوه إذ رأوه "دميم الوجه، ثقيل الدم، لا مال له ولا جاه". كذلك كانوا قد سمعوا عنه أنه شديد السرف، يتقاضى مرتبه اول كل شهر فينفقه كله في يومين او ثلاثة، ثم يدور على اصدقائه لاقتراض جنيه من هذا وجنيه من ذاك. أما ما حدث له خلال الاشهر القليلة التي امضاها في الولاياتالمتحدة فقطع بسببه بعثته، وعاد الى مصر لينضم الى جماعة "الإخوان المسلمين" ويصبح في فترة وجيزة علماً من اعلامها، وقطباً من اقطاب الثورة الإسلامية، فلغز لم يستطع احد كشف النقاب عنه، ولا هو فسره في ما بعد في احاديثه عن نفسه. كل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد هو انه اصيب بخيبة امل في حضارة الغرب، وأنه انزعج ازاء "فساد الأخلاق" في المجتمع الأميركي، وإزاء انحياز الاميركيين ضد العرب إبان الحرب الفلسطينية الأولى العام 1948. عاد الى مصر فشرع يهاجم نظام التعليم فيها وتأثره بالاستعمار البريطاني، داعياً الى مناهج دراسية اكثر تمسكاً بالمفاهيم الإسلامية، وفي العام 1951 انضم الى جماعة الاخوان، وكوّن في الوقت نفسه علاقات وثيقة مع بعض الضباط الاحرار الذين كانوا يدبرون ثورة ضد النظام الملكي، خصوصاً مع كمال الدين حسين الذي سعى بعد نجاح ثورة تموز يوليو 1952 - ولكن من دون جدوى - إلى إقناع عبدالناصر بتعيين سيد قطب وزيراً للتعليم. عندئذ قطع سيد قطب علاقته بالضباط الأحرار وبهيئة التحرير التي كان اول من عين اميناً عاماً لها، وكرّس وقته للدعاية لحركة "الاخوان المسلمين" والإشراف على تحرير جريدتهم، غير أن عبدالناصر لم يمهله. فبعد محاولة اغتياله في الاسكندرية في خريف 1954 ألقي القبض على سيد قطب بتهمة التحريض على هذه الجريمة فلم يفرج عنه الا في العام 1964، وسرعان ما القي القبض عليه مرة اخرى العام 1965 بتهمة تدبير محاولة اخرى لاغتيال عبدالناصر، وكان ان حكم عليه هذه المرة بالإعدام، وكان أن شُنق في آب آغسطس 1966. 2- الشيخ حسن البنا تشرين الاول/ اكتوبر 1906 - شباط / فبراير 1949 كنت وقتها العام 1946 في الرابعة عشرة من العمر، أمرُّ بفترة من التدين الشديد، وقد التقيت خلالها في الاسكندرية بزميل لي في المدرسة في مثل تديني يدعى خليفة. كنا نلتقي كل صباح فنسير جيئة وذهاباً على شاطئ ميامي، كل يشير للآخر الى ما يصادفنا من مناظر لا يرضى عنها الدين، ثم نعبّر معاً عن استنكارنا لها، مستعيذين بالله منها، ونحاول ان نلفت انظار النساء في ملابس البحر الى تعبير الاشمئزاز والازدراء على وجوهنا. وخطر لخليفة يوماً ان ننتقم للدين من كل هذا الفجور الذي يملأ الشاطئ، وأن نُقدم على عمل يرى فيه هؤلاء "البابليون" يد الله وغضبه، وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي، التقينا في مكان محدد بالشاطئ وقد اتينا بمجموعة من الخرق الصغيرة، وقدر من الغاز وأعواد الثقاب، فكنا نشعل النار في الخرقة ونلقي بها في الكابينة من إحدى فتحات نوافذها، ثم ننتقل الى الكابينة التالية. فعلنا ذلك في ست من الكبائن او سبع، وعدنا لاهثين الى البيت نترقب وصول الاخبار الينا عن "حريق هائل يجتاح الشاطئ"، فلما قصدناه عند الظهر، اذ بالامور تجري فيه كالمعتاد، والنساء في ملابس البحر!. ثم بدأ العام الدراسي الجديد فجددت صلتي بخليفة، وقد لاحظت انه يقتصر في صلاته بالمدرسة على خمسة او ستة من الطلبة ذوي طابع خاص يميزهم عن غيره، فهم اعف الطلبة لساناً وأعزفهم عن اللهو والهذر، وأقلهم اعتناء بالملبس، فإن كانوا لا يتمتعون بذكاء كبير ففي جدهم واجتهادهم عوض عن الذكاء، وهم يلتزمون في علاقاتهم بقدر من السرية عظيم. وكثيراً ما نراهم في اوقات الفسح منتحين ركناً من أركان حديقة المدرسة يتحادثون بصوت خفيض، لا يشاركون رفاقهم في لعب البلي والجري والضحك. فإن انضم اليهم غريب شعر من فوره انه قطع عليهم حديثهم الخاص. وهم في معاملتهم لمن ليس في حلقتهم يتخذون سمت التنازل شأن الأخ الكبير العاقل. وعلى رغم أنهم كانوا يبادرون بمديد المساعدة الى كل من احتاج اليها، فقد شاع بين الطلبة وصفهم بثقل الدم. وقد ميزهم عن غيرهم انهم كانوا اذا ذكروا النبي، أو ذُكر النبي في حضرتهم، تمتموا على الفور: صلى الله عليه وسلم. فعرفوا لذلك في المدرسة بجماعة صلى الله عليه وسلم. عرّفني خليفة بهم فكرهتهم منذ اللحظة الاولى، ربما لتفضيل خليفة لهم عليّ، وربما بسبب لهجة التعالي والإرشاد التي كانوا يتحدثون بها إليّ، بل ربما لأن شعوري نحو خليفة نفسه كان قد أخذ يتغير لإحساسي أنه يعاملني معاملة الهادف إلى أمر، وأنه يتبع أساليب مرسومة للوصول الى هذا الهدف، وكأنني أداة يمكن استخدامها بعد علاجها. بدأ بأن سرد عليّ قصة حياته: كيف انه كان فاسداً شريراً كان وقتها في الرابعة عشرة! ثم كيف أنه مرض مرضاً خطيراً كاد الاطباء ييأسون من شفائه منه. غير أن الله تعالى شاء له النجاة، فإذا به يقوم من فراش المرض إنساناً غير الذي كان. وها هو أبوه وهو قاض شرعي يقرأ معه اثناء فترة النقاهة كتاب الغزالي "المنقذ من الضلال"، ويشرحه له، فإذا الكتاب نور اضاء له عقله وقلبه، فعرف الحق وأقسم ليكرس حياته لتعريف الآخرين به، ثم قال عني إنني اشبه في الملامح شقيقاً عزيزاً له اختطفه الموت في ريعان الشباب، وأنه لذلك يكن لي مودة خاصة، ويريد أن يفيدني من تجاربه وثمار تفكيره، موفراً عليّ الآلام الشديدة التي عاناها قبل أن يدرك الحق. وقد كان لخليفة هذا فضل تعريفي في ذلك الوقت بكتابات ابن تيمية وابن حزم، وهي كتابات ظلت أثيرة عندي من بين كتب التراث الإسلامي الى يومي هذا. ثم إذا به في أحد الأيام ينتحي بي في جانب من الفناء أثناء فسحة الظهر ويقول: - أتسمع عن الاستاذ الشيخ حسن البنا؟ - زعيم جماعة الإخوان المسلمين؟ سمعت به. - وما رأيك فيه؟ - كل ما أعرفه عنه أنه نشر منذ اسبوعين في جريدة الإخوان خطاباً مفتوحاً الى أبي يعرض عليه فيه الانضمام الى الجماعة، ويقول إن مكاناً ينتظره في الصف الاول من صفوفها. قال فجأة: - أتحب أن تقابله وتسمع منه؟ - وكيف لي بذلك؟ - سيحضر هذا المساء إلى بيتنا لزيارة ابي، وهو يرحب دائماً بمقابلة الشباب. - ليس لدي مانع. واستأذنت أبي عصراً في الذهاب، فتردد لحظة يفكر، ثم أذن لي، على أن أسرد إليه عند عودتي ما دار من حديث. ثم قال وأنا أتأهب للانصراف: - إن سألك الشيخ البنا لماذا لم أجب على خطابه المفتوح، فقل إنه لا علم لك بالموضع. في شقة خليفة في حي "كوبري القبة"، كان الشيخ حسن البنا جالساً مع أربعة أو خمسة من الضيوف الآخرين في حجرة الاستقبال العتيقة الطراز، وقد كُسيت مقاعدها بالقماش الأبيض، كانوا باستثناء الشيخ البنا يحتسون القرفة. وإذ عرفهم خليفة بي، ذكر للشيخ البنا انني ابن الاستاذ احمد أمين، فأبدى الشيخ على الفور دلائل الاهتمام، وخبط بكفه الغليظ ثلاث مرات على حشية الكرسي المجاور له اشارة لي أن أجلس بجانبه. ثم واصل حديثه مع أحد الحاضرين: - المسألة يا مولانا خلافية إلا في ما يتعلق بالطعام والشراب. فالحديث متفق عليه، والنهي شديد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم"، ولا قياس مع النص، ولا مناص من الامتثال. أجاب محدثه: - يا أستاذ، أنا أحكم بقوانين نابليون، وفضيلة القاضي يحكم بالكتاب والسنة، وكل منا ملتزم بشريعته. - الأمر إنما جاء للمسلمين عامة وأنت واحد منهم. ثم التفت الشيخ البنا فجأة إليّ: - إذاً فأنت ابن استاذنا الجليل احمد أمين، لقد قرأتُ كل حرف كتبه ابوك مرات ومرات. وأقولها مشهداً الله على ما في قلبي إنني أراه قد استكشف تاريخ الحياة العقلية للمسلمين استكشافاً لم يُسبق اليه. كان يتكلم بصوت جهوري عميق، وبسرعة عجيبة وكأنما يستمع لنفسه في أقصر وقت ممكن درساً حفظه. وبدأت أرد بأن أبي يبادله شعور الاحترام والإجلال، فقاطعني بحركة من يده ورأسه وكأنما هو يرفض ما يقال من قبيل المجاملة: - لعلك سمعت منه أنني وجهت اليه خطاباً مفتوحاً في جريدتنا ادعوه فيه الى الانضمام الى الجماعة، أحدّثكم في هذا الأمر؟ حاولت أن أكذب فلم استطع. فلهجته الحاسمة، وسرعته في الكلام التي توحي بالرغبة في الحصول بسرعة على الرد الصحيح لكي يتمكن من الانتقال الى النقطة المهمة التالية، لم تتركا لي مجالاً سوى لأن أجيب: - نعم. - فلماذا لم يرد إذاً؟ - أبي يرى أن جماعة الاخوان المسلمين بدأت بداية طيبة محمودة في دعوتها الدينية، غير أنها انحرفت بعد ذلك عن غرضها الاصلي بتدخلها في السياسة، وهو لا يرى الربط بين السياسة والدين. - لا يرى الربط بين السياسة والدين؟!! قالها في تهيج شديد وهو يشد لحيته السوداء بأصابعه الخمسة، وكأنما هي المرة الأولى التي يسمع فيها هذا الانتقاد يوجه الى جماعته. - لا يرى الربط بين السياسة والدين!! أنا بصراحة لا أفهم هذه العقلية. لا أفهمها اطلاقاً. قال ذلك موجهاً حديثه الى الآخرين. قد أفهمها من ملحد علماني، نعم. اما ممن لا شك في صدق ايمانه كأحمد امين فلا... هي العقلية نفسها التي الحظها في الشيخ مصطفى عبدالرازق ومحمد حسين هيكل باشا، كيف يمكنكم ان تفسروا أن أكبر علماء المسلمين شأناً عندنا يتحدثون عن عدم ارتباط السياسة بالدين، وكأنما لم يسمعوا قط عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكن الرسول عليه السلام قد أحدث هذا الربط؟ ما رأيك؟ هززت كتفي لا أدري بما أجيب. - تحب أن تفهم؟ - نعم. - فاسمع إذاً، الواضح من ملامحك أنك فتى نجيب. فاستمع إليّ، وأشرب قرفتك قبل أن تبرد. ما نعنيه بربط السياسة بالدين هو الارادة أن تحكم هذه الأمة لا وفق دستور من وضع بشر قد يخطئون، وانما وفق أحكام القرآن الكريم والسنة الشريفة. وهي أحكام لا يمكن أن يعتورها خطأ... ما العيب في ذلك؟ - يقول والدي ان مقتضيات العصر... - ماذا؟! صاح مستنكراً من دون أن يدعني أكمل جملتي وهو يخبط الارض بعصا في يده. كيف إذاً يُسمي نفسه مسلماً ويحل لنفسه الكتابة في الاسلام؟ مقتضيات العصر؟!! - أنا أرى أن أحكام القرآن وسنة النبي.... - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم، تصلح لكل زمان ومكان. - أنت ترى ذلك. ولكن يرى أن القرآن لم يحو كل ما يمكنه أن ينظم علاقاتنا وأوضاعنا التي تختلف عما كان قائماً وقت النبي عليه السلام، وكأنما لم يكن من السهل على الله عز وجل أن يرى ما سيكون في المستقبل!! ومع ذلك، فلننظر الى الأوضاع التي لم تختلف. خذ السرقة مثلاً. القرآن يقول اقطعوا يد السارق. فلماذا لا يقطعونها اليوم؟ - أبي يقول.... - هذه سفسطة لا تفسير للدين أيضاً من دون أن ينتظر إكمالي للجملة. في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقطعون يد السارق، وكفى بذلك تفسيراً. عبدالعزيز باشا فهمي ايضاً ظهر اخيراً ببدعة جديدة في الدين، محاولاً أن يثبت أن القرآن لا يسمح بتعدد الزوجات. ولكن النبي والصحابة كانوا يتزوجون بأكثر من واحدة. ما أريد قوله هو أن الحكومة الحالية تحكم بما يخالف الشرع، بما يخالف حكم الله. ومن يحكم بما يخالف حكم الله والشرع حقت محاربته واسقاطه. ومن ثم فلا مفر من ربط السياسة بالدين إن أردنا أن نهيئ مجتمعاً يرضى الله عنه، ويمكن للمسلم فيه أن يعيش حياة إسلامية حقاً. ثم ابتسم الشيخ البنا في وجهي فجأة وكأنما هو يعتذر عن لهجته المتحمسة: - لا يمكن للمسلم في يومنا هذا أن يكون مسلماً حقاً إلا إن وحد مع غيره من الاتقياء المخلصين جهودهم في سبيل تهيئة المجتمع الصالح. العمل الفردي لا يُجدي. الصلاة والصوم والزكاة لا تكفي. والجهاد في سبيل فرض حكم الله واجب. هذا ما تبينته حين كنت في مثل سنك يا سيد حسين. الجماعة قوة والمسلم بمفرده غير ذي شأن. وإذ أن جماعتنا هي الجماعة الوحيدة في امتنا التي نصبت أمام عينها هذا الغرض، فإن الانضمام اليها واجب ديني، وهو الحل الوحيد. وإنني أقولها مخلصاً مؤمناً: إن رفض الانضمام الى جماعة الاخوان المسلمين إعراض عن الاسلام بأسره. قل هذا لأبيك! ثم حوّل عني وجهه بغتة، فلم يوجه إلي كلمة واحدة بقية الجلسة. ونقلتُ عند عودتي نص الحديث الى والدي، فهز رأسه مرتين أو ثلاثة، ولم يعلق. لم أجد في حديث الشيخ البنا ما يغريني بالانضمام الى الجماعة، وقد كان خليفة يتوقع ان يكون لقائي بالشيخ نقطة تحول في حياتي، فلما سألني بعدها عن انطباعي وارتآه سلبياً، فترت مشاعره نحوي فتوراً ملحوظاً، وكذا مشاعري نحوه ونحو أصحابه. ثم إذا بحادث يقع، حوّل هذا الفتور عندي الى عداء صريح ومجابهة مريرة، ألا وهو حادث اغتيال رئيس الوزراء في ذلك الحين، محمود فهمي النقراشي، على يد أحد أفراد جماعة الاخوان المسلمين، وقيل إنه كان بإيعاز من الشيخ حسن البنا. كان النقراشي، زعيم السعديين، صديقاً حميماً لأبي، يسكن داراً قرب دارنا في ضاحية مصر الجديدة، وكثيراً ما يتزاوران، وقد رأيته للمرة الأولى إذ كنت صبياً في روضة الاطفال، دخلت علينا مدرسة الفصل ذات صباح تخبرنا أن النقراشي باشا وزير المعارف سيزور روضتنا خلال النهار، وأنها ستطلب منا كتابة جملة، فمن كتبها ولم يخطئ في كلمة منها ناب عن الفصل في الترحيب بالضيف وكانت الجملة: "رأس المجلس رئيسٌ من الرؤساء" فلم يكتبها سليمة غيري. وإذ تقدمت في فناء المدرسة للترحيب بالوزير، صافحني وقبّل رأسي وسألني عن اسمي. وعندما سأل عما اذا كنت ابن احمد أمين، تقدمت ناظرة المدرسة تجيب نيابة عني بالإيجاب، وتضيف قولها إن ابن الوز عوّام. فعاد يقبّل رأسي ويصافحني من جديد. ثم قال: - حجم رأسه وبريق عينيه وحدهما يحكمان بذكائه. ومن وقتها بات النقراشي عندي زعيم الأمة من دون منازع، لا أقبل من أحد قولة سوء فيه. فما اغتالته جماعة الإخوان المسلمين، حتى تبلور عدائي لها ولمرشدها العام. * كاتب مصري