- 1 - تتكاثر اليوم أحاديث العلماء المسلمين حول حاضر الإسلام ومستقبله. ويكادون ان يجمعوا على أن أسباب تدهور الشعوب العربية والإسلامية وتخلّفها، كامنة حصراً في البعد أو الانحراف عن مبادئ الإسلام، وفي عدم تطبيق تعاليمه. ويعرف المهتمون ان هذه الأطروحة قديمة سبقهم إليها أقرانهم في القرن الماضي، وناقشها مفكرون وكتّاب كثيرون. غير ان لها اليوم وقعاً آخر، في ضوء الأحداث المغيّرة التي ترجّ العالم العربيّ، والعلاقات الجديدة التي تولّدها بين العرب والغرب. في هذا الضوء تحديداً، لديّ اجتهادان آمل بأن يتقبلهما هؤلاء العلماء بتسامحٍ، وأرجو إذا رأوا فيهما "إعوجاجاً" أن "يقوّموه"، لكن لا "بحَدّ السّيف"، بل بحدّ العقل. - 2 - يتعلّق الاجتهاد الأول بالتبسيطية التي تتّسم بها هذه الأحاديث. خصوصاً أنها تصل أحياناً الى درجة تبدو معها كأنها كلام عالق في الفراغ، لا خارج الزمان والمكان وحدهما، وإنما كذلك خارج التطوّر، بشرياً وحضارياً. عدا ان هذه التبسيطية تُظهر الإسلام كأنه "دواء سحريّ" جاهز، يشفي جميع الأمراض، ويحلّ جميع المشكلات بمجرّد "تناوُله". وفي ذلك ما يُضفي عليه طابعاً "عجائبياً" يرفضه الوحي الإسلامي نفسه. لم يعد ممكناً بحث قضايا العرب والمسلمين إلاّ في تعالقها مع قضايا الآخرين في العالم، قليلاً أو كثيراً. ومعنى ذلك ان إرجاع التخلّف الى تلك الأسباب حصراً، يعني أمرين: الأول، هو ان غير المسلمين يجب ان يكونوا، بالضرورة والطبيعة، متخلّفين. والثاني، هو ان عليهم ان يعتنقوا الإسلام لكي يخرجوا من هذا التخلّف. غير ان الواقع، تاريخياً وحضارياً، يدحض هذين الأمرين معاً. فغيرُ المسلمين هم الأكثر تقدّماً، والأكثر معرفة، والأرقى فناً وعلماً، والأكثر احتراماً للقانون وللإنسان وحرّياته، ولقيم العدالة والمساواة. بل إن كثيراً من الشعوب غير المسلمة أو "الكافرة" كما يحلو لبعضهم ان يسميها، تقدّم للمسلمين مساعدات متنوّعة في مختلف الميادين، "وتغنيهم من جوعٍ" في أحيان كثيرة. بل إن العرب والمسلمين يعيشون كلياً على الأخذ من اختراعات "الكفّار" في جميع المجالات العلمية والتقنية والحياتية. السؤال الذي يوجّه هنا الى هؤلاء العلماء هو التالي: إذا كانت مسألة التقدّم والتخلّف تابعة للدين حصراً، فلماذا يتقدّم "الكفّار" ويتخلّف "المسلمون"، ولماذا يتفوّق، علماً وفنّاً وتقنية، أولئك الذين لا يعتنقون الإسلام على البشر الذين يعتنقونه؟ نعم، ينبغي على هؤلاء العلماء أن يتخطّوا هذه التبسيطية، إلى ما هو أكثر دقةً وتعقيداً. وإلاّ فإنهم يخاطرون في وضع الدين حيث لا يجوز أن يوضع. الدين في ذاته، أياً كان، هو في كيفية تعقّله، وكيفية فهمه. ولا يُصبح عامل تقدّم أو تخلّف، إلاّ بدءاً من هذه الكيفية. والمسألة، اذاً، ليست في النص بذاته، وإنما هي في كيفية قراءته، وفي مستوى هذه القراءة. إن معظم المسلمين اليوم يعيشون في مجتمعات يهيمن عليها الفقر والجهل والأمية والطغيان. هذا هو عالمهم الثقافي الإنساني، في هذا العالم، وانطلاقاً منه، يتعقّلون الإسلام، ويفهمونه. إنهم، موضوعياً، يفعلون ذلك بطرقٍ لا فكر فيها، ولا علم، ولا فنّ، ولا حرّية. هكذا يصنعون من الإسلام "إسلاماً آخر" - في مستوى عقولهم وحياتهم وثقافتهم. وهم في ذلك لا يقدّمون الإسلام للعالم، وإنما يقدمون "قراءتهم" الخاصة، و"فهمهم" الخاص للإسلام. هكذا يبدو ان المشكلات الأولى في العالم العربي - الإسلامي هي في المقام الأول "داخلية" - خصوصاً في كلّ ما يتعلّق بالدين، وفي العلاقات مع "الخارج"، أو مع الآخرين غير المسلمين. - 3 - يتعلّق الاجتهاد الثاني بكون معظم هؤلاء العلماء يتغاضون عمّا يتضمن النص القرآني من الإشارات الكثيرة، المتنوّعة، التي تؤكد على عدم الإكراه في الدين، وعلى حرّية التديّن. فلماذا يصرّون على ألاّ يروا في الدين إلاّ "الإكراه"؟ ومن أين يجيء هذا الإصرار؟ إذا كان الإسلام يؤمن بالإنسان، بوصفه الكائن الأسمى بين المخلوقات، وبوصفه مخلوقاً على صورة الخالق، فإن على المسلمين ان يتفهموا ان عدم التديّن بالوحدانية بظاهرة إنسانية طبيعية، كمثل التديّن بالوحدانية. بل إن عليهم ان يتفهّموا ان ظاهرة اللاتديّن هي كذلك طبيعية، وليس في الطبيعة الانسانية ما ينفيها أو يُبطلها. فهاتان الظاهرتان شكلان آخران من الحرية التي يتميز بها الانسان. والإيمان بالانسان لا ينفصل عن احترام هذه الحرية. إن لعدم الإكراه في الدين مقتضيات فكرية وأخلاقية، تفرض على المؤمن ان يتقبّل إمكان وجود أفراد أو جماعات في مجتمعه، لا يؤمنون إيمانه. وعليه ان يؤمن، إن كان يحترم الانسان حقاً، بأن لكل انسان الحق في ان يؤمن بالدين الذي يشاء، أو في ان يرى الدين حيث شاء: في العقل، أو الفن، أو الشعر أو المحبة أو غيرها من القيم الانسانية الكبرى. من دون هذه الحرّية الذاتية - الاجتماعية، في المجتمع، يكون هذا المجتمع قائماً، في الدرجة الأولى، على الخوف، وعدم الثقة، والقلق، من جهة، وعلى النفاق، والرياء، والكذب، من جهة ثانية. وفي مثل هذا المجتمع، لا يكون الدين إلا مجرّد "مظهر خارجيّ"، أو مجرّد "مؤسسة". وهذا مما يؤدي الى حصر الدين في كونه مجرّد "أمر" و"نهْي"، وعزله كلياً عن كونه تجربة روحية كبرى في رؤية الانسان، وفي فهم العالم والكون. - 4 - يدفعني هذان الاجتهادان إلى اجتهاد ثالث يتّصل بما حدث ويحدث في العراق، أي بالحالة التي يبدو فيها الوضع العربي - الإسلامي عارياً أكثر من أي وقت مضى، في التاريخ كلّه - تنبغي هنا الإشارة الى ان التعامل مع "المسألة العراقية" - "العربية"، كان أكثر وعياً وعمقاً، في ايران وتركيا وحتى في كردستان، منه في أي بلد عربي. غير ان لذلك حديثاً آخر. يتعلّق هذا الاجتهاد الثالث بضرورة التوكيد على ان الدين، بوصفه تجربة انسانية عالية، لا يمكن ان يفرض من خارج بالقوة، والا فقد معناه. ويقضي الدين، بوصفه كذلك، ان يمارس باحترام كامل لحقوق الآخرين الذين لا يمارسونه. فلا معنى، على الصعيدين الانساني والفكري، لحرّية المتديّن اذا لم يحترم حرية غير المتدين، أو حرية من لا يتديّن بدينه. دون ذلك ينقلب الدين نفسه الى عبودية، والى معتقل. وينعكس هذا كله على المجتمع برمته - في مختلف المجالات، حيث يسود التخلّف. اذ في مثل هذه الحالة، لا يعود ممكناً القضاء على أمراض المجتمع: على الأصول الكامنة فيه للتنازع العرفي والطائفي، والثقافي، والعشائري، والقبلي" على أصول العنف والقهر والظلم والقتل والإذلال والتهجير" على أصول الحرمان والاستئثار والتمييز والاستغلال" على أصول الخراب سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً. إن من الصعب الإنكار ان هذه "الأصول"، بتنويعاتها جميعاً قائمة في العراق، وأنها كانت القاعدة الأساسية للأسباب التي ادت الى انهياره، على هذا النحو لقد هُدرت أو أبيدت أو "جففت" طاقات العراق كلها، وما أكثرها وأعظمها، بجهل واستهتار وعماوة، وبانعدام كامل لأي مسؤولية وطنية أو انسانية أو أخلاقية أو دينية. وسؤالي الثاني هنا، عطفاً على سؤالي الأول، هو: إلى أين يسير العرب، إن كان لا يزال يحق لنا ان نخاطبهم بوصفهم "كُلاً"، أو "وحدة"؟ أم ان هذا السؤال نافل، لأنهم منذ زمن لا يسيرون، بل ينزلقون ويغرقون؟ أو لنسأل، بالأحرى: تُرى هل "نهاية التاريخ" فرضية لا تجد ما يقدم البرهان الساطع عليها، أفضل من التاريخ العربي؟ وفي كل حال، لا يمكن ان نجعل من المجتمع "واحداً" الا اذا كان "متعدداً". من دون الاعتراف بتعددية المجتمع، نفقد وحدته، أو تكون هذه الوحدة "مصطنعة"، مفروضة: يُعطى فيها الحق الى فئة من المجتمع بالهيمنة على فئاته الاخرى. وفي ذلك نحوّل المجتمع الى بؤرة للطغيان والفساد، ونحوّله كذلك الى سجن بائس. والواقع ان الفكر الايديولوجي "الموحِّد" في العالم العربي كله، سواء منه ما وصل الى الحكم أو لم يصل، قادنا في القرن العشرين المنصرم الى مستوى من التوهم والضياع والخراب أصبحنا فيه لا نعرف من نحن، وما المعنى الذي ينبغي ان نضفيه على حياتنا ووجودنا؟ وأصبحنا لا ننظر الى العالم وعلاقاتنا معه الا عبر توهماتنا وخرافاتنا. وأصبحنا ننظر الى أنفسنا كأننا قناديل تتدلّى من سقف الايديولوجية لإضاءة الكون. لذلك يجوز ان ندهش إن كنّا نكاد ان نفقد المنطق والعقل، اضافة الى الواقع، وإن كنا أصبحنا كمثل شجرة اللبلاب لا تعيش الا تعريشاً واتكاء على غيرها. أو مجرد نباتٍ لا يحيا الا بماء تسكبه عليه اليوم يد، لكي تقتلعه غداً أو بعده. قارنوا بين الإنفاق الضخم الذي قام به الفكر الايديولوجي "الموحد" الحاكم، في النظام العراقي البائد، على التسلح، والتجييش، والبولسة، وعلى البذخ والإسراف المفرطين في بناء القصور واقتناء المصنوعات الآلية، باهمال شبه كامل لمشروعات التنمية البشرية، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً - أقول: قارنوا بين هذا الانفاق والنتائج التي حققها في محاربة الغزو الأميركي - البريطاني، وقولوا بصدق رأيكم: أفلا تكشف هذه النتائج عن كارثة فكرية وإنسانية لا مثيل لها؟ أفلا يبدو هذا الفكر الايديولوجي "الموحد" كأنه حرب أخرى أشد ضراوة من أي حرب، على العراق، وطناً وشعباً، حاضراً ومستقبلاً؟ الأخطر من ذلك هو: كيف أمكن ان يحكم فكر ونظام في هذا المستوى من الانحطاط - رؤية، وتعقلاً، واستبصاراً، طوال ثلاثين سنة، بلاداً هي التي افتتحت كتابة التاريخ البشري؟ نعم، كل نظام لا ينهض على ارادة الشعب في مختلف اتجاهاته، في تعدديته العرقية والدينية والفكرية والاجتماعية، لا مصير له غير السقوط. وكل نظام لا يكون الا مجرد حزب واحد، وجيش حزبي واحد، وبوليس حزبي واحد، ومؤسسة حزبية واحدة، وثقافة حزبية واحدة، لا مصير له غير السقوط، ويجب ان يسقط. كلا، حيث لا تعددية، ولا ديموقراطية، ولا حريات: لا وطن، ولا يكون المجتمع الاّ قفصاً. وما يكون الانسان والفكر والحياء، وما يكون الدين نفسه في مثل هذا "الوطن - القفص"؟