تبقى المشاركة بأعمال الإغاثة بهدف تحسين الوضع الإنساني في العراق في شكل عام وفي جنوبه في شكل خاص مظهراً مهماً يعكس الاهتمام الحقيقي بهذا البلد وشعبه. فبعد أن سكتت المدافع وتوقف القصف، سهل نسبياً الوصول الى مدن العراق وقراه، وتبينت للزائر كم صعبة وخطرة أحوال العراقيين هذه الأيام، وكم هي حاجتهم للمساعدة في هذه الظروف المأسوية. هؤلاء العراقيون الذين طالما أرادهم بعض إخوانهم العرب أن يكونوا إما مقاتلين أو شهداء، غابوا عنهم عندما أصبحوا عطشى وجرحى ومرضى، وفضلوا أن يحملوا الأميركيين مسؤولية كل عذابات العراقيين، نقص المياه الصالحة للشرب، مرضهم وانعدام الأمن. مع العلم ان المناطق الجنوبية من العراق كانت تعاني من شح المياه منذ أكثر من خمس وعشرين سنة. وأن عمليات السلب والنهب هذه التي عمت المدن العراقية عجزت الولاياتالمتحدة ان تمنع أحداثاً شبيهة بها عمت مدينة نيويورك بعد انقطاع التيار الكهربائي لساعات في الثمانينات من القرن الماضي، فما بالك بالتحكم فيها بوقف مبكر بعد انهيار سلطة مركزية إرهابية قبعت على عقول وقلوب المواطنين لأكثر من ثلاثة عقود؟ كانت لكاتب هذه السطور فرصة المشاركة في واحدة من الحملات المستمرة التي يقوم بها متطوعون من "الهلال الأحمر الكويتي" لنقل الماء والطعام والدواء لمدن العراق. كانت جهتنا مدينة البصرة، هذه المدينة التي ظلت شاحبة وحزينة لعقود، وضائعة بين شعارات مثل "البصرة مدينة المدن" و"صدام أشجع قائد لأشرف شعب ولأعظم أمة". واستمرت هذه المدينة تجر عذاباتها وجراحها منذ عام 1980. فخلال حرب تحرير الكويت ثم الحرب بين المنتفضين العراقيين وجيش النظام في آذار مارس 1991، وتعرضت أخيراً لقصف من قوات التحالف ولنهب وسلب من الغوغاء. لكن هذه المرة ستكون النهايات مختلفة. فلا شك في أن هناك شهداء ومفقودين وجرحى ومرضى وعطشى، لكن، هناك كذلك أمل، أو هذا ما تحسسه كاتب هذه السطور في عيون أهلها الحزينة. وبالتأكيد كان رجل الدين العراقي سيد هاشم الشماع محقاً عندما صرح لصحيفة "نيويورك تايمز" واصفاً أحوال العراقيين من بغداد "أن حال العراقيين كمن يبكي من عين ويضحك من العين الأخرى". الطريق من الكويت الى البصرة حوالى مئة وسبعين كيلومتراً، يمر أكثر من ثلثيه في الأراضي الكويتية. سفوان هي أول قرية عراقية تطل علينا بعد الخروج من الحدود الكويتية. مركز الجوازات فيها كان خالياً من الأثاث والموظفين والشرطة. كان منظراً غريباً لم يعهد من قبل. فقد اعتاد ملايين المسافرين الذين عبروا هذا المركز الحدودي أن يكون مركزاً للابتزاز والسلب وتوجيه الإهانات للمسافرين عامة وللعراقيين خاصة. ومثّل هذا المركز مظهراً ورمزاً لسوء إدارة العراق منذ العهد الملكي الى عهد النظام الأخير. وكان ما تعرض له البشر في هذا المركز من تسلط واهانات موضوعاً للتندر من قبل الكويتيينوالعراقيين والعرب الآخرين، وذلك بعد أن ينجوا بأنفسهم بالطبع. إن ما عاصرته هذه المباني التي أصبحت خاوية من الأثاث والشرطة، من تجارب، وما سمعته من أوامر عشوائية وصراخ ومهاترات، يشكل مخزوناً لمواضيع أكثر من قصة ومسرحية وفيلم. فمن آخر ذكرياتي مع هذا المركز، عندما كان زاخراً بالبشر والموظفين والشرطة والإعلام والصور والشعارات، أن استمعت الى موظف يطلب من سائق سوري متوجه الى الكويت أن يرجع بشاحنته الى الموصل ليختم بعض أوراق دفتر سيارته الدولي من هذه المدينة، لأنها أول مدينة كبيرة يمر فيها بعد دخوله العراق. قبل خروجنا من مركز سفوان، متوجهين الى البصرة، لمحت لافتتين، الأولى بخط جميل، وبدا أنها قديمة، والثانية كانت بخط رديء، وبدا عليها أنها حديثة كتبت بسرعة وعفوية. الأولى كانت لمطعم سماه صاحبه "جيكور"، تعريفاً بالقرية التي ولد فيها الشاعر بدر شاكر السياب، كانت اللوحة تعلن عن مشويات هذا المطعم الطيبة. تساءلت كم من زبائن هذا المطعم يثير الإسم انتباههم. أما اللافتة الثانية والتي كتبت بعفوية وبخط رديء، فقد كتب عليها: "شكراً لإخواننا في دولة الكويت"، ويبدو أن كاتب هذه اللوحة مع سوء خطه وعفويته، كان يقصد مراعاة مشاعر الكويتيين بأن الأخوة لا تعني الضم أو الدمج، وانه لا يحمل شوائب ما زرعه النظام السابق في عقول بعض العراقيين وقلوبهم. توقعت أن يكون الطريق من سفوان الى البصرة أكثر خطورة، السيارات كانت قليلة، وربما أغلبها كانت سيارات ومركبات للجيش البريطاني. وبعد مضي حوالى أربعين كيلومتراً، توقفنا عند مفرق طريق على بعد أمتار قليلة من مرقد الصحابي الجليل طلحة بن عبيدالله، وأصبحت البصرة على يميننا في اتجاه شمال الشرق، والزبير على يسارنا في اتجاه جنوب الغرب. وعلى مسافة كيلومتر واحد بدا لنا جامع الإمام علي كرم الله وجهه وعلى مسافة أبعد وفي وسط مدينة الزبير شاهدت منارة ومسجد مرقد الصحابي الجليل زبير بن العوام، الأرض من حولنا سبخاء وفقيرة من كل شيء إلا من التاريخ. فهذه الأرض هي أرض البصرة القديمة، وعلى مدى قريب وفي وسط مدينة الزبير الحالية وقعت معركة الجمل في 63ه بين الإمام علي كرم الله وجهه وصحبه من جهة، والصحابيين الجليلين الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله والسيدة عائشة أم المؤمنين من جهة أخرى. وعلى هذه الأرض جمعت مفردات اللغة العربية على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي، كما نشأ فيها الحسن بن الهيثم، وطور علومه في البصريات وعلوم الطبيعة الأخرى، وفيها تحدث الجاحظ وكتب عن بخلائه. وصلنا مقر جمعية الهلال الأحمر العراقي قرب الظهر من يوم الأحد 13/4، وتم إدخال الشاحنات التي كانت محملة بعبوات المياه الى داخل محيط الجمعية، حيث قام متطوعو الهلال الأحمر الكويتي بإنزال الحمولة بالتعاون مع العاملين في الهلال الأحمر العراقي. مئات البصريين كانت تنتظر في الخارج، أغلبهم من النساء. وفي جو العمل هذا والاستراحة تمكنت من الحديث مع بعض الرجال والنساء. كانت همومهم الأولى الأمن والماء. الحال الأمنية بعد غروب الشمس تتدهور في شكل يمنع الأهالي من التجول. وكثيراً ما يحصل إطلاق نار بين عصابات متنافسة. وبعض الرجال من العاملين في الهلال الأحمر، يظلون في مقر جمعيتهم لحراسة الأدوية. ولحسن الحظ تمكنت من الحديث مع محام من البصرة تربطني به صداقة قديمة، كان من القليلين الذين نجحوا في مقاومة إغراءات النظام، وإن كلفهم ذلك مادياً. شعرت أنه، على رغم الوضع الصعب يرى الأمل أصبح قريباً في بناء عراق جديد. حدثني عن الوضع الأمني والمعاشي وعن اجماع أهل البصرة على نبذ الطائفية، وعن مزاحم التميمي الذي عينه الانكليز مديراً للإدارة المدنية في البصرة. وأخبرني أن أهل البصرة يحترمون شخصيته، كما أنه عميد متقاعد، إضافة الى ذلك فإن هناك تعاطفاً معه لكون أخيه الذي كان يعمل قاضياً ضحى بحياته بسبب عدم خضوعه لمطالب النظام البعثي. لكنه أخبرني كذلك أن الناس محبطون من الطريقة التي عين بها استناداً الى خلفيته العشائرية. وقد تأكدت من هذا الرأي بعد الحديث مع بعض العاملين في الهلال الأحمر في البصرة. فهناك إجماع على رفض العشائرية، خصوصاً أنها تذكرهم بسلوكيات النظام السابق في السنوات الأخيرة من عمره. ويبدو أن الانكليز والأميركيين يبالغون بتقديرهم للثقل السياسي والمجتمعي للعشائر في العراق. الوضع الإنساني في العراقوالجنوب خصوصاً ينذر بكارثة، فالمستشفيات لا ينقصها الدواء فقط، بل الماء وأدوات ووسائل ومواد أخرى متوافرة في كل بيت خارج العراق. فقد أخبرني الطبيب الكويتي هلال الساير، الذي يتردد كثيراً على البصرة في الأيام الأخيرة لتقديم وتوصيل المساعدات، أن كثيراً من المستشفيات يعاني نقصاً في اسطوانات الأوكسيجين، وقد أشرف بنفسه على تسليمها الى أحد المستشفيات. كما شارك مع مجموعة من المتطوعين من الهلال الأحمر الكويتي في تأمين تسيير صهاريج مياه عذبة من الكويت لهذا المستشفى. وعلمت ان الأطباء العراقيين الذي يعملون في هذا المستشفى لا يتجاوز الراتب الشهري لكل منهم سبعة دولارات. في ظل هذا الوضع المأسوي الذي يعيشه العراقيون، يغيب الدور العربي لمد يد العون اليهم وإغاثتهم. فالحضور العربي ضمن عمليات الإغاثة ضعيف جداً. فقد استمرت الفضائيات العربية في تقديم ما يود الجمهور العربي أن يسمعه ويشاهده: مهاجمة الوجود الأميركي في العراق. وربما يود البعض للوضع الإنساني العراقي أن يتفاقم، ليجد تبريراً أقوى لمهاجمة الوجود الأميركي. فالجمهور العربي يتوقع من غير العرب أن يقوموا بهذا الدور الإنساني، مع أن العالم العربي في شكل عام والخليج في شكل خاص يفيض بخبرات وثروات انسانية ومالية كبيرة يمكن أن تثبت نفسها بتقديم العون للشعب العراقي في محنته هذه. ما من شك في ان العراق قد أصيب بأمراض سياسية واجتماعية متعددة وعلى مدى عمر دولته الحديثة التي تأسست عام 1921، ويمر الآن بمخاض عسير لأنه يكاد أن يولد من جديد، فلنساهم في إسعافه. نود أن نسمع مسؤولاً عربياً يعطي أولوية للوضع الإنساني على الوضع السياسي. ليرفض الوجود الأميركي، لكن، ليشعر العراقيون أن هذا الرفض من أجل العراقيين وليس للتغلب على خوف من اقتراب لهذا الوجود. * كاتب كويتي.