مع ان رئيس وزراء تركيا عبدالله غل اشترط صدور قرار ثان لمجلس الأمن قبل موافقة البرلمان على نشر قوات أميركية فوق أراضي بلاده، إلا ان وصول فرقة تركية الى شمال العراق اعطى الانطباع بأن الحكومة عقدت صفقة مع واشنطن خارج الشرعية المطلوبة من النواب. وبهذا تكون أنقرة قد سبقت الأميركيين الى الشمال الكردي، حيث سيتم الغزو العسكري على جبهة طولها 350 كيلومتراً. والمؤكد ان حكومة غل استغلت قرار البرلمان الكردي الرافض لدخول قوات تركية الى كردستان كي تستثير المشاعر القومية وتحرض النواب على قبول 62 ألف جندي اميركي في قواعد عسكرية ممتدة من ميناء مرسين حتى ديار بكر. ولكن قرقعة السلاح التركي لم تمنع أعضاء "لجنة المتابعة والتنسيق" المجتمعة في أربيل، من الإعراب عن مخاوفها وانزعاجها من الدخول المفاجئ للقوات التركية الى شمال العراق. والمعروف ان هذه اللجنة تشكلت في مؤتمر لندن كانون الأول - ديسمبر الماضي كنواة لحكومة موقتة يراد لها ان تشارك في حكم العراق بعد زوال نظام صدام حسين. ولكن واشنطن خيبت أمل المراهنين على دعمها عندما سربت معلومات تشير الى احتمال تعيين قائد عسكري اميركي مكان صدام حسين. وصدرت عن البنتاغون ووزارة الخارجية مجموعة اسماء مرشحة لهذا المنصب بينها الجنرال جون أبو زيد الذي وصفته صحيفة "فايننشال تايمز" بأنه سيكون "ماك ارثر" العراق، والجنرال ديفيد ماكيرنان والجنرال المتقاعد جاي غارنر. وكان من الطبيعي ان تثير هذه الطروحات حفيظة المعارضة العراقية التي رأت ان واشنطن بدأت تهمش دورها وتعطي تركيا دوراً أساسياً في عملية التغيير. خصوصاً بعد التصريح الذي أدلى به عبدالله غل عندما أعلن عن مشاركة بلاده في الحكومة العسكرية التي ستُكلف بحكم العراق، وذلك بواسطة جنرال تركي. كذلك شدد على ضرورة مشاركة سفير يمثل أنقرة في الحكومة العراقية الانتقالية. ويستنتج من هذا التصريح ان التنسيق الاميركي - التركي قد أعطى "حزب العدالة والتنمية" حق التدخل في رسم سياسة العراق على الصعيدين الأمني والديبلوماسي. ومعنى هذا ان ادارة بوش ستمنح تركيا دوراً "شبيهاً" بدور حليفتها اسرائيل في الدولة الفلسطينية، أي الموافقة على اشتراك انقرة في وضع سياسة عراقية داخلية وخارجية، لا تضر بمصالحها ولا تهدد أمنها. يجمع الديبلوماسيون العرب في تركيا على القول بأن الموقف الاميركي الرسمي الأخير جاء حصيلة مشاريع ومخططات ودراسات حملها بول ولفوفيتز، مساعد وزير الدفاع الاميركي، الى المسؤولين في انقرة. ومع ان نتائج زيارته أحيطت بالكتمان الشديد إلا أن ما نشرته الصحف كان كافياً لرسم صورة الدور الذي أعدته واشنطنلتركيا. وهي صورة جديدة تمثل قوة الاحتواء المطلوبة لضبط العالم العربي عند حدوده الشمالية، في حين تتولى اسرائيل المهمة ذاتها عند الحدود الجنوبية الغربية. والفكرة في الأساس مستمدة من دراسات المؤرخ والمنظر العقائدي برنارد لويس واضع كتاب: أين كان الخطأ؟ ولقد صدر هذا الكتاب إثر احداث 11 أيلول سبتمبر كتفسير تاريخي لسقوط العرب في دوامة العنف والارهاب، مع دعوة سافرة لضرورة تدخل اميركا من أجل بناء أنظمة ديموقراطية في الشرق الأوسط. وبما أن بول ولفوفيتز يعتبر أحد أبرز المشاركين في صناعة السياسة الخارجية الاميركية، لذلك اعتمد أفكار لويس وتبنى نقاشاته، وكتب عنه يقول: "نجح برنارد لويس في رسم قضايا الشرق الأوسط بشكل موضوعي مستقل. لقد علمنا هذا المؤرخ في جامعة برينستون كيف نفهم التاريخ المعقد للشرق الأوسط، وكيف نستعمل فهمنا لتحديد خطواتنا أثناء بناء عالم أفضل للأجيال المقبلة". ولكن ما هي النظريات التاريخية التي يستخدمها برنارد لويس لتفسير خصوصية شعوب المنطقة؟ اكتسب لويس - المستشرق البريطاني اليهودي - شهرة واسعة بعد انتقاله الى الولاياتالمتحدة في الستينات والتحاقه بجامعة برينستون، وبسبب كتاباته عن الاسلام جرى تعيينه خبيراً في شؤون العرب واسلام الشرق الأوسط. وكان من المنطقي ان يستغل منصبه شبه الرسمي ليؤجج الأحقاد ضد منظمة التحرير الفلسطينية، معتبراً أن أهدافها "اسلامية" وليست سياسية. وبما أنه يعتبر الاسلام في تركيا النموذج العصري لما يجب أن يكون عليه الاسلام، لذلك انكر في حديث لصحيفة "لوموند" - 1993 - حدوث مجازر الأرمن، مدعياً أن اليهود وحدهم تعرضوا لمجازر الابادة هولوكوست على أيدي النازيين. وكان من نتيجة هذا التمييز ان اقامت مجموعة من التنظيمات الأرمنية دعوى مدنية وجنائية ضده في باريس، متهمة إياه بتزوير الحقائق وانكار المجازر. ولكن الشعب التركي قرأ كلام لويس باعجاب واعتبره مستنداً للدفاع عن تاريخه القديم والحديث. خصوصاً ان برنارد طور نظريته ضد الاسلام العربي الذي يعتبره رجعياً ومتخلفاً ولاعقلانياً ومناهضاً للديموقراطية الغربية. ولقد زودته احداث 11 أيلول بالأسلحة الإعلامية المطلوبة لربح معركة تشكيل خريطة الشرق الأوسط على نحو يضمن لتركيا واسرائيل السيطرة على امن المنطقة وثرواتها من خلال فكي كمّاشة عسكرية. واستطاع لويس خلال فترة قصيرة ان يضمن تأييد عدد كبير من رجال الادارة الاميركية بينهم: الوزير دونالد رامفسيلد ومساعداه دوغلاس فايث وبول وولفوفيتز والمستشار اليوت ابرامز ومساعد وزير الخارجية ريتشارد بيرل. كما ضمن ايضاً دعم زلماي خليل زاد، المستشار الرئاسي الخاص لشؤون الشرق الاوسط. مهمة زلماي في اربيل هذا الاسبوع لم تكن سهلة بسبب الشكوك التي خيمت على اجواء اجتماعات فصائل المعارضة العراقية. وهي اجواء ملبّدة زادها اكفهراراً اعلان وزير الدفاع التركي وجدي جونول بالسماح ل62 الف جندي اميركي بالانتشار. وكان زعيم "حزب العدالة والتنمية" رجب طيب اردوغان، صرح مطلع هذا الاسبوع ان عدد القوات التركية التي سترسل الى شمال العراق سيفوق عدد الجنود الاميركيين مرتين في حال اندلعت الحرب. وهكذا تكون مخاوف جلال طالباني الاتحاد الوطني الكردستاني ومسعود بارزاني الحزب الديموقراطي الكردستاني قد صدقت. وهما يعتقدان بأن دخول تركيا على الخط سيجبرهما على حل الادارتين المحليتين في اربيل والسليمانية، الأمر الذي يؤدي الى الغاء المشروع الفيديرالي الكردي الذي طرح عقب حرب 1991. وتعرض هذا المشروع الى انتقادات كثيرة في الولاياتالمتحدةوتركيا والمجموعات التركمانية والآشورية. وكان الرفض الاميركي للمشروع يتركز على شجب فكرة استغلال انشغال القوات المحاربة بهدف احتلال مدينة كركوك وضمها الى الولاية الكردية. ويقول زعيم الجبهة التركمانية العراقية صنعان احمد آغا انه يتوقع حماية مكثفة من الجيش التركي اذا حصل هجوم على العراق. واعترف آغا في مقابلات عدة ان التركمان يطالبون بكركوك والموصل اللتين شكلتا جزءاً من الامبراطورية العثمانية قبل انشاء العراق بعد الحرب العالمية الاولى. وتقول الصحف التركية ان حكومة عبدالله غل طلبت ادخال قواتها الى المناطق الشمالية العراقية بحجة حماية ثلاثة ملايين تركماني يدينون بالولاء لأنقرة. وفي ظل هذه الظروف يحاول مسعود بارزاني وجلال طالباني التصرف بحذر تجاه مدينتي كركوك والموصل النفطيتين اللتين يستخرج العراق منهما ثلث انتاجه. وتقول الصحف الاميركية ان واشنطن وعدت تركيا بمكاسب سياسية واقتصادية مقابل السماح لقواتها باستخدام قواعدها العسكرية كمنصات انطلاق لغزو العراق. وبين هذه المكاسب مجموعة مساعدات تتضمن منحاً مالية يزيد حجمها على ستة بلايين دولار، إضافة إلى عشرين بليون دولار في صورة ضمانات قروض بوسع تركيا الحصول عليها من المصارف المملوكة من القطاع الخاص. وتعكف إدارة جورج بوش حالياً على وضع اللمسات الأخيرة لبرنامج المساعدات الخارجية لإسرائيل وتركيا والأردن، في محاولة لإعانتها على التغلب على الآثار الاقتصادية المترتبة عن العمل العسكري ضد العراق. أما الوعود السياسية فقد اقتصرت على منع الأكراد من انشاء دولتهم في شمال العراق، وايجاد حل للجالية التركية في قبرص يتلاءم مع طموحاتها في دولة فيديرالية. وهذا ما يفسر وجود أمين عام الأممالمتحدة كوفي أنان في قبرص، وإعلانه عن "مهمة الفرصة الأخيرة" لتوحيد شطري الجزيرة. يصف المؤرخون تركيا بأنها تمثل في موقعها دور إله البدايات والأبواب لدى الرومان والذي يعبر عنه عادة بوجهين هما وجها يانوس جانوس. فهي تتطلع إلى دور شرق - أوسطي إسلامي، في حين تنظر من جهة أخرى إلى دور أوروبي علماني، لذلك قال عنها فوستر دالاس، وزير خارجية ايزنهاور، إنها حلقة الوصل بين الحلف المركزي والحلف الأطلسي. ويبدو أن وضعها الجغرافي هو الذي يحدد دورها التاريخي، بدليل تناقض سياستها الخارجية. والكل يذكر الكلام الذي كرره عبدالله غل في طهران والعواصم العربية من أن بلاده ترفض الحرب الأميركية ضد العراق، وان مسعاه بهذا الشأن هو حقيقي وليس مناورة. ولكن هذا الكلام يتعارض مع دعوته لطلب مساندة الحلف الأطلسي إذا ما تعرضت بلاده لعدوان عراقي. واعتبرت الدول العربية هذا الطلب مخالفاً للمنطق، لأن الدولة المسالمة البعيدة عن النزاع لا يجوز أن تطالب بالحماية والدفاع عن أراضيها إلا إذا كانت عازمة على التورط بعمل مساند للمعتدي. وتؤكد أوساط سياسية كردية أن العقود السياسية والمعاهدات العسكرية التي عقدتها تركيا مع إسرائيل، تجعل منها قوة متواطئة على المستقبل العربي. وتدعي هذه الأوساط أن تركيا ستضم الموصل وكركوك بهدف تهدئة الشارع المناهض للحرب، وتطمينه إلى الربح الاقتصادي الذي جنته الحكومة من وراء اشتراكها في صنع مستقبل العراق. إضافة إلى هذه المكاسب، فإن برنارد لويس يتطلع إلى دور تركيا كبديل من أدوار مصر والسعودية والعراق وسورية. وهو يعتبر أن هذه الدول لم تنجح في كبح جماح هجمات الاصولية الإسلامية التي هددت الحضارة الغربية وأعلنت الحرب على مؤسساتها الثقافية والسياسية. لذلك فهو يتوقع من الدولة التركية السنية غير العربية أن تؤدي الدور المطلوب في مرحلة تشكيل شرق - أوسط جديد. وهذا ما عناه الرئيس جورج بوش عندما تحدث عن نشر الديموقراطية في المنطقة وعن ظهور أنظمة جديدة اثر سقوط آخر معاقل القومية العربية. بل وهذا ما كان يحاربه لويس في كل كتبه من أجل بقاء دولة إسرائيل! * كاتب وصحافي لبناني.