لا، ليست الوجوه الفاتنة القادمة من شمس هوليوود الى صقيع العاصمة الألمانية هي النجوم التي شعّت تحت أضواء الدورة الاخيرة للبرليناله Berlinale 2003 مهرجان برلين السينمائي، بل "نجوم" قائد عسكري ما زال يثير الجدل. صحافة النميمة الفنية ادعت أن الحسناء كاثرين زيتا جونز وزوجها مايكل دوغلاس هي الألق الأكبر في الليالي الملاح التي رعى بعضها المستشارغيرهارد شرودر. لم يكن هذا سوى ربع الحقيقة. ما حدث أشبه بالعاصفة: آلاف من المشاهدين تهافتوا على شراء بطاقات العروض الخاصة بشريط المخرج الاميركي أوليفر ستون المعروف بأفلامه الانتقادية لسياسة البيت الابيض ورجاله. ليس لأنه يعيد "خبطاته السينمائية" التي لا تستثني أحداً في واشنطن، بل لأن بطل شريطه الوثائقي ال "كومندانته" لم يكن سوى "قيصر" هافانا فيديل كاسترو. لعلّها المرة الأولى التي يفلح فيها مخرج هوليوودي مكرس مثل صاحب "نيكسون" و"كينيدي" و"سلفادور" في الوصول إلى أكثر رؤساء أميركا اللاتينية ألدّ أعداء أجهزة الاستخبارات الاميركية منذ ثورته ورفيقه غيفارا مطلع الستينات روّج ستون لشريطه المقبل عن الرئيس ياسر عرفات وعنوانه "شخص غير مرغوب فيه" الذي زاره العام الماضي في مقره في رام الله مخترقاً الحصار الاسرائيلي، وذكر في حوار صحافي ان الاعلام الاميركي هاجم فيلمه، بينما امتدحته قيادات يهودية في الولاياتالمتحدة واعتبرته متوازناً. ما الذي فعله اذن كي يرق قلب القائد العجوز؟ اشتراط ستون أن يكون كاسترو ممثلاً وحيداً في الفيلم لا يشاركه أي من رفاقه أو قيادات حزبه. قبل ال "كومندانته"، بل زايد منذ المشهد الاول، بأن للمخرج الحق في أن يسأل عن كل شيء، وأن يجيبه القائد بلا تردد. كان جلياً سعي المخرج الاميركي إلى إبراز الجانب الكوميدي لدى شخصية سياسية تعرضت للتشويه، فبقدر "الشتائم" والنعوت التي كالتها له الإدارات الاميركية المتعاقبة، فإن الشريط يثبت حقيقة الاريحية والتهكم والملاحة التي تعد من سمات كاسترو في مشهد ساخر يقترح ستون اهداءه حبوب فياغرا، فيتهكم القائد "ارى العناوين تقول: ستون يهرّب الفياغرا لكاسترو!". فهو لا يتوانى عن مناقشة مفهوم الديكتاتور، على سبيل المثال. ويعبر عن استيائه من صفاقة إطلاق الصفات السلبية على الآخرين، مثلما يأخذ على قادة واشنطن ضيق أفقهم ونقص معلوماتهم. يصرخ كاسترو في المشاهد الافتتاحية حينما يطلب منه المخرج، كرهان، أن يتجرأ القائد العجوزعلى السير في شوارع هافانا، فيقول: "نعم، نعم لنذهب حالاً. أنا اليوم دليلك السياحي". وصُدم ستون بموجة التعاطف الشعبي الكبيرة مع "الكومندانته". لا ينسى كاسترو ان يحكي ذكرياته مع صديقه الروائي ارنست همنغواي وزوجته السابقة التي نفت نفسها الى اسبانيا وعشيقته سيليا سانشيز التي توفيت في العام 1980، وعن أبلغ ألم عاناه حينما توفيت والدته التي كان شديد التعلق بها، ثم رفيقه تشي غيفارا عندما بلغه نبأ اغتياله، ولايتونى في ابداء اعجابه بصوفيا لورين وبريجيت باردوو"صديقي جيرارد ديبارديو". أبلغ مشهد يعبر بقوة عن إرادة "قيصر" هافانا كان ذلك التجمع العائلي ابنه وحفيده وعدد من الأقارب الذي تحلق حول مائدة، ليكشف تحت دهشة الجميع وصمتهم الحجري الصفقة السرية مع الزعيم السوفياتي خروتشوف لشن حرب استباقية على الولاياتالمتحدة. شريط ستون حيادي لّم بجوانب غير معروفة عن آخر الثوريين في الطرف الغربي من العالم. ولم يترك "الكومندانته" خبر توجيه رئيس مهرجان برلين السينمائي ديتير كوسليك الدعوة إليه للمشاركة في افتتاح العرض الرسمي أن يمر من دون واحدة من "قفشاته"، فأرسل سفيره لدى ألمانيا ليسلمه رسالة رسمية أمام الصحافيين، يعتذر فيها عن عدم الحضور بسبب "تصاعد المخاطر في الساحة الدولية"، وتحولت الرسالة خبراً أول على الألسن وفي صفحات الجرائد، فيما اعتذر ستون أمام الجمهور عن عدم تمكن "بطله" من الحضور... فعذره معروف!