تزدحم عواصم العالم بالمتاحف والمراكز الثقافية من كل الأنواع. فكلما أراد المسؤولون عن مدينة ما اظهارها كمركز حضاري وملتقى ثقافي، سعوا الى افتتاح متحف جديد. وقد اشتهرت العاصمة البريطانية بمتاحفها الرائعة ابتداء من "المتحف البريطاني" الذي يحتوي على روائع أثرية عالمية وبريطانية وصولاً الى "متحف الشمع" الذي يجمع مشاهير العالم من قادة وفنانين ورياضيين تحت سقف واحد. ...وأخيراً اكتشفتُ متحفاً فريداً من نوعه تماماً، وكأنه أُسس خصيصاً لي ولأمثالي من محبي الشاي والقهوة. متحف يجمع بين المعرفة والمتعة، بين الترفيه والراحة: انه "متحف براما للشاي والقهوة". ومن الضروري ذكر اسم "براما" عند الحديث عن هذا المتحف، لأن صاحبه ادوارد براما جزء لا يتجزأ منه. عمل براما في تجارة الشاي والقهوة لأكثر من 50 عاماً متنقلاً بين كينيا والصين والهند واليابان. وعلى رغم أنه فكّر في انشاء متحف خاص للشاي والقهوة منذ العام 1952، غير أن الفكرة لم تتحول الى واقع الا بعد 40 عاماً من العمل والتجهيز. افتتح المتحف أبوابه للزوار العام 1992 في مقر كان يستقبل شحنات الشاي والقهوة على مدى القرون السابقة. ومن موقع المتحف على ضفة نهر التيمز في قلب لندن نعودُ الى زمن بعيد حين كان شرب الشاي والقهوة فناً خاصاً يحظى بعناية المضيف والضيف على حد سواء، بدلاً من الاعتماد على القهوة الفورية وأكياس الشاي المنتشرة الآن. والى منطقة "بانك سايد" حيث يقع المتحف الآن، كانت شحنات شركة "شرق الهند" من الشاي الهندي تصل الى الانكليز منذ القرن السابع عشر. عند الدخول الى المتحف نفاجأ بالطابع غير الرسمي وبالأجواء الهادئة. وللوهلة الأولى تصورتُ أنني دخلت الى مقهى بريطاني تقليدي، بطاولاته الصغيرة المستديرة المغطاة بشراشف مطرزة تستقبل شاربي الشاي والقهوة. وبعد الجلوس الى احدى هذه الطاولات بانتظار الشاي لأدفئ نفسي بعد المشي الطويل في برد لندن القارص، رحت أتمعن في الصور المختلفة المعلقة على جدران المقهى والمتحف المجاور: اعلانات من شركات شاي بريطانية ولّى زمنها، وصور لمجموعات من البريطانيين بملابسهم المحافظة وهم يشربون الشاي خلال القرن الثامن عشر في مقاهٍ مستقلة استُبدلت الآن بفروع المقاهي العالمية مثل "ستار باكس" الاميركية. وحين جاءت النادلة بالشاي أحسست وكأنني في بيت أحد الأصدقاء الذين يقدمون لي الشاي على صينية أنيقة معها ابريق يحتوي أوراق الشاي بدلاً من الأكياس المعتادة الآن حتى في أفخم المقاهي البريطانية. ومع فنجان الشاي الساخن انضم اليّ ادوارد براما ليحدثني عن "تراث شرب الشاي بطقوسه الخاصة". وبينما هو منهمك في حديثه عن هذه "الطقوس" من غلي الماء وتخمير الشاي وانتظاره بضع دقائق، خطر لي أن مثل هذه الطقوس ما زال يمارس في البيوت العربية. ولكن براما قال بأسى "أن نمط الحياة السريعة والاستهلاكية قضى على هذه الطقوس التي تحتاج الى الصبر والاسترخاء". وأضاف يقول انه يعمل "من أجل المحافظة على تراث شعب شاربي الشاي أي الشعب البريطاني الذين غسل أدمغتهم التلفزيون، فالفقرات الاعلانية قصيرة ولا تسمح بتجهيز فنجان شاي أو قهوة حسب الأصول، لذلك لجأوا الى أكياس الشاي ومسحوق القهوة الفورية، وهذه المواد تعطي لون الشاي والقهوة لكنها لا تقدم الطعم المميز ولا المتعة المرتبطة بتناول الشاي أو القهوة". وبعد الاستمتاع بفنجان الشاي الذي يكاد يكون أفضل ما شربت في حياتي، بدأت جولتي في المتحف الصغير وأنا أتصور أنه لن يستغرق مني أكثر من نصف ساعة لرؤية كل محتوياته. غير أنني اضطررت للتأني والتمهل حتى أتمكن من استيعاب المراحل المختلفة ى الشاي والقهوة، وكيف تمكنا من اختراق الأسواق الأوروبية. يقدم المتحف أربع قصص في آن واحد: أولاً قصة الشعب البريطاني مع شرب الشاي في بداية القرن السابع عشر، وتطور هذه العلاقة بحيث أصبح الشعب البريطاني معروفاً بتناوله الشاي خصوصاً "شاي بعد الظهر" الذي كان يجمع العوائل والأصدقاء عند العصر كل يوم. والقصة الثانية تتناول صناعة الشاي وتطورها. وقد جمع براما انواعاً مختلفة من أباريق الشاي والسماور وأكواب الشاي المختلفة. كما يستطيع الزائر أن يتذوق انواعاً متعددة من الشاي، مثل أسام وسيلان بالاضافة الى التمييز بين أوراق نبتة الشاي. وبعد ذلك تبدأ القصة الثالثة، وهي قصة القهوة التي انطلقت من اليمن واثيوبيا لتمتد عن طريق تركيا الى فيينا ومنها الى أنحاء أوروبا. ويعرض المتحف الآلات المتنوعة التي استخدمت لصناعة القهوة وتجهيزها. ويقول براما بسخرية حادة: "ان ما تقدمه المقاهي الحالية من شراب مثل الكابوتشينو لا علاقة له بالقهوة الاصلية، انه مجرد خليط من الحليب والقهوة". ويشدد على أهمية نكهة القهوة ونقائها بدلاً من الاعتماد على اضافة الحليب والسكر والشوكولاته في بعض الأحيان لتغيير طعمها. أعادتني زيارة المتحف الى زمن كانت القهوة فيه تدق في البيوت، والشاي يُخمر على السماور. ومنذ ذلك الحين بدأت أحس بفقدان طعم الشاي عندما أعده بصب الماء المغلي على كيس الشاي... فعلى من يهوى شرب الشاي والقهوة حسب الأصول أن يزور هذا المكان الطريف ليستمتع بالطعم الحقيقي النقي، وليستمع الى قصص يرويها رجل عاصر تجارة الشاي والقهوة في زمن الامبراطورية البريطانية والرأسمالية الاميركية!