يتجاوز ما يدفع من أجور للعمالة في السعودية مواطنة وغير مواطنة 250 بليون ريال سنوياً 66.6 بليون دولار، ويقدر نصيب العمالة الوافدة منها بنحو الثلث، وهذا المبلغ لا يشمل المتممات والتعويضات. ومن المحللين من يقارب الرجم في الغيب ليقدر معدل البطالة في سوق العمل السعودية، ويعاضد "التنجيم" ندرة وتقادم البيانات الرسمية ذات الصلة، ليتعاون الجانبان - من دون تنسيق - في تشويش المشهد، فيصعب فهم أوضاع سوق العمل المحلية وبالتالي تصعب معالجتها بشمولية وكفاءة. ويمكن الجدل، أن المعالجة المجتزأة لتشوهات سوق العمل المحلية، على رغم التأثير الحرج لتلك السوق على المستقبل الاجتماعي- الاقتصادي للبلاد، تعني تجذيراً للتشوهات القائمة واتاحة الفرصة لافرازاتها أن تلحق ضرراً متصاعداً في قدرة الاقتصاد السعودي على النمو والمنافسة. لعل من المفيد التذكير بأن قوة العمل في أي بلد تشمل الموظفين لحساب الغير زائداً العاملين لحساب أنفسهم زائداً العاطلين عن العمل ممن لديهم القدرة والرغبة للعمل، بين 16-64 عاماً. أما معدل البطالة فهو النسبة المئوية للعاطلين إلى اجمالي قوة العمل، ولا يشمل ذلك العمالة في القطاعات العسكرية. وهناك تخمينات عدة للبطالة تتفق فيما بينها أن معدل البطالة في السعودية أعلى من سبعة في المئة. وبداهة، يتغير معدل البطالة على الدوام بتغير قيمة البسط أو المقام أو كليهما، ولذا نجد أن عدداً من الدول ينشر أعداد العاطلين ومعدل البطالة شهرياً. معدل البطالة عادة ما تكون البطالة في الدول النامية أعلى كثيراً من مستوياتها في الدول المتقدمة اقتصادياً. فمتوسط المعدل للدول المتقدمة في عام 2001 قدر بنحو ستة في المئة، ويتوقع أن يرتفع إلى 6.4 نهاية سنة 2002 وأن تتراجع إلى 6.2 في المئة سنة 2003. وفي المقابل تتجاوز البطالة في بعض الدول النامية 35 في المئة، كما هي الحال في مقدونيا مثلاً، أما في الدول العربية فالمتوسط هو 15 في المئة حسب تقديرات منظمة العمل العربية، وهي تقديرات غير دقيقة بسبب أن معظم الدول العربية لا ترصد أعداد الباحثين عن عمل بوتيرة منتظمة ولا توظف من الآليات ما يجعل الرصد دقيقاً. ومع ذلك، يمكن بيان أن حتى معدل سبعة في المئة هو أعلى مما يمكن للاقتصاد المحلي تحمله، فكيف إذا كان المعدل أعلى، لأسباب منها: إعتماد الاقتصاد السعودي الهيكلي على عمالة وافدة تجاوزت كلفتها المباشرة نحو 54.2 بليون ريال نحو 14.5 بليون دولار عام 2001، وأن زيادة الإعتماد على العمالة المحلية بنقطة مئوية واحدة تجلب مزايا ليس أقلها توفير نحو نصف بليون ريال 140 مليون دولار من تحويلات تخفف الضغط على ميزان المدفوعات، يكفي على سبيل المثال بناء أكثر من مئة مدرسة لتحل محل مدارس مؤجرة. ولعل الأهم إدراك أن هناك احصاءات تبين أن العمالة الوافدة غدت تمثل غالبية، لتتجاوز مساهمتها نحو 52 في المئة من اجمالي العمالة. ويمكن تقدير اجمالي العمالة في نهاية عام 2002 بنحو 6.6 مليون، منها 3.5 مليون وافد بينهم 600 ألف إمرأة، ليصبح عدد السعوديين العاملين نحو 3.1 مليون منهم نحو 400 ألف إمرأة. أما عدد الباحثين والباحثات عن عمل بين المواطنين والوافدين فيبدو أنه غير معروف. لكن إلى أي مدى يمكن خفض مستوى البطالة؟ عند النظر إلى اداء دولة نشطة ومتقدمة اقتصادياً مثل سنغافورة نجد أن معدل البطالة يقارب ثلاثة في المئة، وفي كوريا نحو 4.2 في المئة، أما في أيسلندا فمعدل البطالة يقل عن اثنين في المئة. ولإضافة ظل آخر للصورة، فحري النظر إلى ما يعرف بمعدل المشاركة، وهو نسبة قوة العمل إلى إجمالي السكان. وعندما نعكس هذا الفهم على الواقع الاحصائي في السعودية نجد أن نسبة المشاركة تقدر بنحو 33 في المئة، أي أن شخصاً واحداً من كل ثلاثة من السكان هو ضمن قوة العمل، وهي نسبة منخفضة نسبياً، وكافية لوضع الاقتصاد السعودي ضمن مجموعة البلدان التي بها نسبة منخفضة من السكان في قوة العمل. ومع ذلك، من الانصاف الاستدراك ببيان أن نسبة المشاركة في السعودية اعلى منها في بلدان مجاورة مثل مصر نحو 27 في المئة، سورية 28 في المئة، إيران 26 في المئة. غير أن البلدان المجاورة تلك لا تعتمد على العمالة الوافدة اعتماداً هيكلياً كما هي الحال في السعودية، بما يبرر القول أن على السعودية السعي حثيثاً لرفع معدل المشاركة لأعلى قدر، وخفض معدل البطالة لأعلى قدر، وخفض العمالة الوافدة غير المؤهلة والماهرة لأدنى حد، من خلال برنامج زمني يتحلى بالواقعية والصرامة في آن واحد. ويتضح الأثر السلبي للبطالة في أكثر من مجال، منها أن العاطل يحسب ضمن قوة العمل على رغم أنه غير منتج، وهو بذلك يصبح مورداً ليس مجمداً فحسب بل يُستهلك عبر الكبر في العمر من دون عائد اقتصادي للمجتمع، وتتضاءل كفاءته نتيجة عدم ممارسة المهارات الحالية وعدم اكتسابه مهارات جديدة بحكم أنه عاطل. وهذا يعني انكماش الرأسمال البشري. أما الحالة الأكثر إلاماً، فهي استئصال جزء من الرأسمال البشري نتيجة سفر عامل وافد ماهر مكث سنتين او ثلاث، ليحل محله آخر غالباً يقل عنه خبرة. وهنا تتضح الأهمية العالية لنشاط الإحلال في استقرار ومراكمة الاستثمار في الرأسمال البشري. وهذه ظاهرة لا مجال لكنسها تحت البساط، ذلك ان معظم العمالة الماهرة وافدة. برنامج الإحلال الإحلال هو أن يحل المواطن محل الوافد في الوظيفة بهدف تقليص الاعتماد على العمالة الوافدة من جهة وتقليص البطالة في أوساط المواطنين والمواطنات من جهة أخرى. ولا تكمن دوافع سياسة الإحلال فقط في الحاجة للحد من البطالة بل كذلك في إصلاح ممارسة اقتصادية غير مبررة وهي فتح سوق العمل لغير السعوديين للعمل في شتى المهن والحرف وفي كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، على رغم أن أسواقاً أقل تأثيراً وأهمية لم تفتح لغير السعوديين بعد كما تبينه تحديداً ما يعرف بالقائمة السلبية او الأنشطة المستثناة في نظام قانون الاستثمار الأجنبي. ثم أن حتى الدول المتقدمة اقتصادياً لا تفتح، ولم تفتح حتى الآن، أسواق العمل، بل تقنن الحصول على تأشيرات العمل لأبعد حد، والشواهد في هذا السياق أكثر من أن تذكر. وفي الحالة السعودية، يمثل الإحلال، من الناحية النظرية على الأقل، مرتكزاً لاستيعاب المزيد من المواطنين، اذ تتوقع وزارة التخطيط السعودية أن توفر قرابة 98 ألف وظيفة في المتوسط سنوياً. فهل ستتاح تلك الوظائف للسعوديين من تلقاء نفسها أم أن الحاجة ماسة لضبط سوق العمالة لتتناغم مع الإحلال المستهدف؟ وطلباً للتحديد يطرح السؤال: هل نجح الاقتصاد السعودي في احلال ذلك العدد خلال عام 2001 وما قبله؟ أي هل تم إحلال نحو 294 ألف مواطن ومواطنة منذ إنطلاق الخطة الخمسية السابعة عام 2000؟ الإجابة غير معروفة، إذ لم تنشر بيانات توضح الأداء الفعلي لبرنامج الإحلال خلال سنوات الخطة الخمسية السابعة. ومع ذلك هناك مؤشرات تاريخية تبين أن برنامج الإحلال أخفق في سنوات الخطة الخمسية السادسة 1995-1999، عندما ابتعد عن تحقيق التقليص المستهدف للعمالة الوافدة بأكثر من 370 ألف وظيفة. وهناك قرائن قد تساهم في تفسير مقاومة إحلال السعوديين محل الوافدين في سوق العمل، منها أن متوسط أجر السعودي يتجاوز أجر نظيره الوافد بنحو ثلاثة أضعاف. وهكذا، يمكن الجدل أن أهداف الإحلال لن تتحقق طوعاً، بل لا بد، ضمن أمور اخرى، من التقتير في استقدام العمالة الوافدة مع استثناء العمالة الماهرة والعالية التأهيل والخبرة لتمكين العمالة المحلية من ممارسة حقها المكتسب للعمل في موطنها من دون منافسة إغراقية. برنامج للإحلال بغض النظر عن السؤال وإجابته، فالأهمية الحرجة للإحلال تبرر إطلاق برنامج وطني يتكون من جملة عناصر متكاملة تؤدي في مجملها الى خفض البطالة من جهة وزيادة نسبة المشاركة من جهة أخرى. ولعل من المناسب اقتراح المكونات الآتية للبرنامج: التحريك التدرجي والدائم لسقف العمالة الوافدة إلى أسفل، وضع معايير للتأهيل للمهن، تقديم خدمات الارشاد والاعداد ومعلومات التوظيف، اعادة تأهيل الكبار، تقديم اعانة العمل للباحثين الجادين، تقديم اعانة بطالة لمستحقيها. وبرنامج من هذا النوع يجب أن يمتلك موارد تتناسب مع المكاسب المتوخاة، فنجاح البرنامج الوطني للإحلال في توظيف 98 ألف مواطن يعني مكاسب اجتماعية هائلة، وتنمية رأس المال البشري بخبرات متراكمة، وتوفيراً في التحويلات تتجاوز ما يعادل 1.2 بليون ريال من العملات الأجنبية سنوياً، وتقليصاً لظاهرة التستر، ومكاسباً في الانتاجية، ودعماً أكيداً لمعدل النمو الاقتصادي. ولذلك يجب الإصرار على تحقيق إحلال تلك الوظائف 98 ألفاً، بل والإصرار على مساءلة المتسببين عن الفشل في حال حدوثه، فكل وظيفة لا تسترد يعني ملازمة مواطن للبطالة وحرمانه من المساهمة في بناء وطنه وتحقيق ذاته، ويعني وأداً للرأسمال البشري، ويعني حرماناً لملايين الريالات من أن ترفرف في ردهات الاقتصاد المحلي لتساهم في انتعاشه. وضروري لنجاح البرنامج الوطني المشار إليه أن يحظى بمستوى مناسب من الانفاق العام. وأمر من هذا النوع ليس من المجدي إحالة تمويله على القطاع الخاص، فالقضية أوسع من ذلك. وعند الاحتكام لما ترصده دول عدة لبرامج قوة العمل نجد أن الحكومة البريطانية تخصص من إيراداتها ما يوازي نحو 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تخصص السويد تمويلاً يقارب 2.7 في المئة، والولايات المتحدة نحو 0.8 في المئة. ومن الضروري الإشارة إلى ان برنامج الإحلال في المملكة أكثر صعوبة، فالأمر يتطلب التأسيس لعمالة وطنية لتقليص الاعتماد على العمالة الوافدة لإعتبارات لم تعد خافية في آثارها الاجتماعية والاقتصادية. فالأمر إذاً ليس مجرد توفير وظيفة أو مساندة عاطل. وعليه، يصبح مبرراً توفير تمويل لا يقل عن اربعة في المئة من اجمالي الناتج المحلي، أي نحو 30 بليون ريال سنوياً، أي ما يوازي متوسط نسبة نمو العمالة. وليس هذا كله انفاق جديد، بل يتطلب الأمر هيكلة الإنفاق الحالي على الموارد البشرية ليعاد توجيهه لسد الثغرات القائمة ومعالجة المشاكل الراهنة تحديداً واستهادفها استهدافاً مباشراً. ولعل من المناسب التذكير أن الانفاق السنوي لتنمية الموارد البشرية حالياً يتجاوز بكثير المبلغ المقترح، ولعل الجديد هو الاصرار على تحقيق أهداف قابلة للقياس ضمن نطاق زمني ملزم، وربط الأداء بالشفافية الواضحة والمحاسبة العسيرة، إنطلاقاً من أن إنجاز البرنامج الوطني للإحلال أولوية إجتماعية - اقتصادية تأخر انجازها. ولا بد من الإقرار أن التحدي الإجتماعي - الاقتصادي يتجاوز مجرد الإحلال، ومع ذلك فإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي تعتمد حكماً على تعظيم الاستفادة من الموارد البشرية المحلية، وهذا الجهد يأتي وسط جملة تحديات اقتصادية كبرى تجتاح العالم تستوجب تقوية الذات بالذات في المقام الأول، ما يجعل الحاجة لبرنامج الاحلال اكثر الحاحاً من أي وقت مضى. ومع ذلك، فعلى البرنامج أن يعمل بانسجام مع المعطيات الاقتصادية المحلية. أما على مستوى قوة العمل، فمن ضمن مهمات البرنامج الوطني المقترح توفير الموارد الكافية لزيادة معدل المشاركة، وهذا يعني زيادة المعروض من العمالة الوطنية، ما يؤدي إلى تعجيل وتائر الإحلال، في محاولة للتعويض عما لحق جهد الإحلال من خسائر في الخطة الخمسية السادسة، وتوفير عمالة مواطنة للوظائف الجديدة، واستقطاب مزيداً من الموارد البشرية لسوق العمل من خلال جمع معلومات تفصيلية عن كل باحث عن عمل بتحفيزه ومكافأته وإرشاده لبرنامج تأهيلي محدد أو لوظيفة بعينها ومنحه مكافأة ريثما يجد عملاً، وبعد حصوله على عمل تدفع إعانة لصاحب العمل نظير توظيف المواطن وتدريبه، لمنح المواطن جاذبية مقارنة بالعمالة المنافسة. وهكذا، فان برنامجاً وطنياً بهذا الوصف ضروري يستهدف استكمال سلسلة، متاح منها حالياً حلقة واحدة هي صندوق تنمية الموارد البشرية، مترابطة الحلقات يراد لها أن تقيد تمادينا في الإعتماد على العمالة الوافدة الهامشية الانتاجية محدودة التأهيل، ما يمكن نعته بعمالة الاتكالية والرفاهية وعمالة وأد فرص العاطلين المواطنين. * كاتب سعودي متخصص في المعلوماتية والانتاج.