يصعب تعريف ظاهرة العنف ووصفها وفهمها وتفسيرها وتحليلها في العالم الإسلامي المعاصر، ما لم يتم وضعها في سياقاتها التاريخية. منذ القرن التاسع عشر، تبلورت مدرستان رئيستان تضمان داخلهما تنويعات عدة في تفسير أو تحليل جذور المأزق الإسلامي المعاصر. مدرسة ترى أن جذور المأزق هي صناعة داخلية، ومن ثم فإن أسباب الخروج منه تكمن في تصويب الخطأ الداخلي، بتهيئة البيئة لاستنبات عوامل نهضة جديدة. والمدرسة الأخرى ترى أن جذور المأزق خارجية، أي تتمثل في نتائج العدوان الغربي والهيمنة والتدخلات في شؤون العالم الإسلامي. المدرسة الأولى تتغلب وتنتشر في أي ظرف زماني أو مكاني يتوافر فيه قدر معقول من الحرية النسبية. والمدرسة الأخرى تتغلب وتنتشر في أى ظرف زماني أو مكاني يسوده القمع والقهر والتسلط. ويشيع لدى المسلمين إحساس بفقدان من يمثلهم، ومن يحميهم، ومن يبادلهم الاحترام. ففقدان الممثل واضح في غيبة الديموقراطية التمثيلية النيابية التي تمكنهم من اختيار حكامهم بلا إكراه أو تزييف أو فرض لجبرية الأمر الواقع. أما فقدان الحماية فواضح في طبيعة الدور الذي تمارسه مؤسسات القوة في العالم الإسلامي، إذ يبدو أن على المواطن تمويلها والخدمة فيها، ثم عليها حماية رؤوس السلطة في مواجهة خصومهم أو في مواجهة الناس. أما فقدان الاحترام فيتمثل في موجة الشك التي تسود العالم كله تجاه كل ما هو مسلم أو إسلامي. ويستوي قلب العالم الإسلامي مع أطرافه وهوامشه. فالنار تبدو وقد اشتعلت في القلب وفي الأطراف معاً على حد سواء. والمشكلة الحقيقية، في النظر إلى مسألة العنف في العالم الإسلامي المعاصر، لا تكمن في الاعتراف بوجوده، كما لا تكمن في إنكاره، وإنما تكمن - في الأساس - في تفسيره وفي زاوية النظر إليه، وعلى أساس التفسير تتحدد اتجاهات الحكم عليه، سواء بالمشروعية أم عدم المشروعية. فالتفسير الغربي يرد جذور العنف إلى الخصائص البنيوية للثقافة الإسلامية، قديماً وحديثاً، ثم يضيف إليها خصائص البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة في العالم الإسلامي، والتي تتمثل في ما يسمونه سياسات "الدولة الفاشلة" وإخفاقات التنمية مشفوعة بمستويات عالية من البطالة والفقر اللذين تغذيهما معدلات مرتفعة من الزيادة السكانية. فنحن أمام عالم مدفوع ذاتياً بالرغبة في العنف، ومحاط - موضوعياً - بركام من الاحباطات والاخفاقات التي لا تترك له خياراً إلا الاندفاع وراء الانتقام والثأر. هذه التفسيرات الغربية هي التتويج العملي والفعلي لحقيقة العنف في العالم الإسلامي المعاصر، كما يمكن أن يراه المسلمون أنفسهم. فالمسلمون لا ينكرون الواقع الراهن في كشمير، الهند، باكستان، فلسطين، الجزائر، السودان، الصومال، نيجيريا، الشيشان، ومن قبل في البوسنة وكوسوفو. لكن للمسلمين إدراكاً وتفسيراً وتوصيفاً تختلف عما لدى الغربيين اختلافاً جذرياً. إذ ان التفسير الإسلامي لموجة العنف الراهنة، يرد جذورها إلى مجمل السياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي طوال القرنين الأخيرين. يستوي في ذلك العنف الذي يدور بين أطراف مسلمة مثلما هو في الجزائر منذ أكثر من عشر سنوات، أو مثلما كان في تركيا بين الدولة ومواطنيها من الأكراد، أو سواء كان العنف بين مسلمين وغير مسلمين داخل دولة واحدة مثل السودان ونيجيريا حيث المسلمون أغلبية، أو بين مسلمين يمثلون أقليات وسط أغلبيات مغايرة مثلما في الهند أو صربيا أو بلغاريا. وتتأكد المسؤولية الغربية عن زراعة بذور العنف في العالم الإسلامي المعاصر: من "الزاوية التاريخية"، والمقصود بها نوعية السياسات الاستعمارية الغربية التي تم تطبيقها في العالم الإسلامي، خصوصاً بعد إسقاط الرابطة الإسلامية العالمية الأخيرة للمسلمين، وهي الخلافة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. اذ تمت إعادة هيكلة خرائط العالم الإسلامي بمشارط وسكاكين غربية أخذت تتحرك في سطح الجسد الإسلامي وعمقه ومفاصله وأحشائه، الذي كان يبدو مخدراً أو فاقداً للوعي أو ميتاً أو كاد يموت. لقد ظن الاستعمار الغربي أنه يتعامل مع أشلاء أو حطام لا تملك إمكان الرجعة أو العودة إلى الحياة بشروطها الذاتية. ومن ثم فإن الفرصة مناسبة لإعادة تخليق هذه الأشياء وإعادة تركيبها وبعثها للحياة وفقاً للشروط الغربية. فقبل الاستعمار البريطاني مع مطلع القرن التاسع عشر، عاشت شبه القارة الهندية تحت مظلة الإسلام التي حفظت للأغلبية الهندوسية خصوصيتها الحضارية في جو من الحرية التي لا تعرف الإكراه. ولم تخرج بريطانيا عام 1947 إلا بعد أن شبعت لعباً بهذا التنوع الديني، ودفنت ما عرفته شبه القارة الهندية من تسامح، وإلا بعد أن أعادت رسم الخريطة، فوضعت الإسلام والحضارة الهندوسية في موقعين متقاتلين قتالاً مزمناً وهيكلياً وبنيوياً. فأزالت مظلة الإسلام المتسامح من فوق رأس شبه القارة، وحركت بواعث الغضب والخصومة وسط الفضاء الهندوسي غير المقاتل بطبعه. وما حدث - على يد الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية - حدث مثله في العالم العربي. فالنزاع العراقي - الكويتي، وكل نزاعات الحدود الخليجية هي ميراث بريطاني، فضلاً عن فلسطينوجنوب السودان. وتكاتف المستعمرون الاسبان والبرتغاليون والهولنديون على نزع الطبيعة المتسامحة للإسلام الآسيوي، بما جاؤوا به من حملات تبشيرية متعصبة، جاءت بالمسيحية في خدمة الاستعمار، ثم وضعت المسيحية والإسلام في خندقين متحاربين، ما زرع بذور النزاعات المزمنة في أندونيسيا والفيليبين خصوصاً. وهنا تتأكد المسؤولية الاستعمارية في جانبها الديني المتعصب، ليس باعتبارها ميراثاً تاريخياً انتهى وإن بقيت آثاره تفعل فعلها، ولكن - أيضاً - باعتبارها عملاً ما زالت تباشره هذه المراكز الاستعمارية السابقة. فالعنف حين يمارسه غير المسلمين في تيمور الشرقية، فإنه - من وجهة نظر الغرب - يدخل تحت مظلة حقوق الإنسان، ويتم دعمه وحمايته، حتى يصل الى الانفصال تحت مسمى الاستقلال عن الدولة الأندونيسية. والسلوك ذاته، حين يلجأ إليه المسلمون في جنوب الفيليبين، فإنه - من وجهة النظر الغربية - ليس شيئاً من حقوق الإنسان. * كاتب مصري