وفي مصطفى الجوزو بوعده أخيراً وأصدر بعد نحو أربعة عشر عاماً الجزء الثاني من كتابه "نظريات الشعر عند العرب" وكانت صدرت الطبعة الثانية من جزئه الأول سنة 1988. وقدم المؤلف لكتابه بمدخل مهم تناول فيه طريقة عمله الموسوعية وأوضح رؤيته للمفهوم والمصطلح وتلازمهما، ثم عالج أكثر من ثلاثين مصطلحاً نقدياً وما تنطوي عليه من مفاهيم أساسية، وما قد يندرج تحتها من مفاهيم فرعية، وما قد تندرج تحته من نظريات. في القسم الأول من الكتاب دراسة لمفهوم الفحولة، الذي كان هيولى نظرية شديدة النسبية والذاتية لا يجمع بين شتاتها إلا فكرتا الجودة والقوة، وأدت نسبيّاتها المعيارية والقياسية الى اختلاف النقاد في أسماء الفحول وعصورهم، وفي فحولة أصحاب المعلقات أنفسهم. ثم دراسة لمفهوم عمود الشعر العربي الذي مثّل الكلاسيكية العربية المحافظة والكلاسيكية العربية المحدثة في الوقت نفسه، فجمع بين أسلوب القدماء ومقاييسهم، وأسلوب المحدثين والفكر الدخيل. وفي آخر هذا القسم دراسة لفن الزجل، الذي كان أخطرَ نتائج التغيّر السياسي والاجتماعي في العصور العباسية المتعاقبة، فبدا كردّة حقيقية على المُثُل الشعرية العربية التقليدية، حتى في الرسم الإملائي. لكن الصراع بين عمود الشعر العربي الذي يقتضي الجزالة، وبين عمود النظم العامي الذي يقتضي الرقة، لم يتوقف" فظل كبار الشعراء على عمود الشعر، وعوّلت الطبقات الشعبية على عمود الفنون العامية. وعلل المؤلف ذلك بتنازع المدينة الجديدة بتعقيداتها المعاشية والعمرانية وزينتها وترفها، والبادية والقرية ببساطتهما في المعاش والمسكن ذي الزينة البدائية التي لا تخرج عن الضرورة البسيطة للشعر. وفي القسم الثاني تناول المؤلف المفاهيم الشعرية العربية الغيبية كالوحي والنبوّة والاعجاز الشعري. ويعني، عندهم، امتناع محاكاة العمل الفني الرائع، المتمتع مع ذلك بالسهولة والبساطة، وذلك ما يدفع الآخرين الى محاولة تقليده. وتناول المؤلف في هذا السياق أحاسيس النقاد الغامضة تجاه الشعر والفن، على مستويات ثلاثة: العجز عن التعليل، والعجز عن التعبير، والعجز عن الوصف، موضحاً أن تلك الأمور خارجة عن المقاييس النقدية وتعني تحاشي القياس والإقرار بالعجز عن إدراك السبب، أو عن التعبير عنه ووصفه، ولا يصح أن تكون دليلاً على الجودة أو الفساد أو القبح. وبيّن ان النقاد العرب رأوا في الشعر سحراً، فمحضوه القدرة على استلاب المتلقي استلاباً نفسيّاً نافعاً، حتى بدا الشعراء أطباء للنفس، وأصاب عالم الأرواح المعنى الذي تصوره أكثر النقاد روحاً أو ذا روح، وجعلوه من عمل القلب، وجعلوا النطق أو اللفظ جسداً للمعنى أو جسماً أو لُبّاً أو كساء. أبعاد نفسية وفي القسم الثالث تناول المؤلف مفاهيم ذات أبعاد نفسية، منها مفهوم الطبع. وأوضح أن حازماً القرطاجني، مثلاً، تكلم على الملكة الشعرية كتطوّر للطبع، وأن ابن خلدون تحدّث عن الطبع كملكة أولى تتوارثها الأجيال، ومن ضروبها ملكة الشعر التي يتوارثها العرب وتستحكم فيهم" لكن المؤلف يوضح ان الفكرة السائدة هي ان الطبع طبيعة وفطرة، وأنه موصوف غالباً بالعفوية والسهولة وغزارة الانتاج، وأنه ملازم للشعر، وأن بعضهم وجد بعض الطباع جماعياً أو قومياً، وأن آخرين ربطوا بين الحال الاجتماعية والتطور التاريخي وبين الطبع. وعرض المؤلف لمفهوم اللذة الناشئة عن الشعر، عند النقاد العرب الذين ربطوا حدوثها بالحاجات الحيوية، جامعين بين الماديّ والذهنيّ بعلاقة نفعية، وقد اعتقد بعضهم أن اللذة حال نفسية واحدة لكن مصادرها مختلفة. وأشار المؤلف الى ان الشعراء والنقاد عبّروا عن الميل الى قول الشعر بمصطلحي الرغبة والطمع، وعَنَوا بهما الطمع في جائزة الممدوح، وأنهم استعملوا مصطلح الشهوة، قاصدين به شدة الميل الى تحقيق اللذة الشعرية. والى أن القدماء أوحوا أن الطرب فعلٌ قلبيّ يهزّ النفس أو الطبع ويستخفهما ويبعثهما على الأريحية، أو يطير بهما ويشعرهما بالنشوة، ويبعث الجسم على الترنّح. وربطوا بينه وبين موسيقى الألفاظ والوزن الشعري. وقدّم بعضهم الشعر على الغناء في الطاقة الطربية، وأقام بعضهم عمود الشعر على الطرب، ولعله حلّ، عفوياً، تلك الاشكالية المفهومية التي سميت "ما لا يعلل"، موحياً ان الطرب هو محكّ جودة الشعر، سابقاً بصورة من الصور، المدرسة التأثرية في النقد الحديث. لكن ثمة من أوحى أن الشعر بمعزل عن الطرب، قد يكون نموذجياً ولا يُطرب، وقد يطرب مع كونه فاسداً. ويشير المؤلف الى تناول النقاد العرب مفهوم المتعة، وربط بعضهم بينها وبين النفع وكأنهما متلازمان في الشعر" وتقسيم بعضهم الشعر بمقتضى البهجة والنفع، والإيحاء أن في المتعة تنفيساً وتطهيراً. ويشير أيضاً الى أنهم أرادوا أن يكون الشعر ايحاء، لا يقدّم من الصورة أو المعنى إلا جزءاً يسيراً، ليكون استنتاج هذين أو الشعور بهما مهمة المتلقي، وإلى أنهم تناولوا مفاهيم العجَب والتعجّب والتعجيب، فبدا عنصر التعجّب عندهم في جوهر الشعر الجيّد، أو ما يؤدي أو يرمي الى انتاجه. اللفظ والمعنى وفي القسم الرابع أشار المؤلف الى عناية النقاد العرب بالمفاهيم المتصلة باللفظ والمعنى، ومنها الاختراع الذي كانت له مكانة مهمة عندهم، حتى جعلوه معيار التفوق والتقدّم، وأحياناً معيار وجود الشاعرية نفسها. وأنهم طرحوا قضية الاختراع على مستويي المعاني والألفاظ في ثلاث مقولات هي: 1 - استنفاد الشعراء المتقدمين المعاني النافعة أو الممكنة كلها، غير تاركين للمحدثين إلا الاحتيال لتوليدها ومحدودية الألفاظ الشعرية بعامة، وانتهاء المتقدمين من وضعها بما لا يسمح بمزيد، وضيق باب الولوج الى ميادين لفظية أخرى. 2 - كون المعاني مطروحة في الطريق، وحقّ المتأخرين في اشتقاق الألفاظ، لكن وفاقاً للقياس اللغوي الصحيح، وحقهم في اشتقاق الصيغ الجديدة، على أن تتقيد بالأصول اللغوية. 3 - امكان اختراع المعاني للمحدثين وللقدماء، لكون المعاني غير محدودة، أو لكون التطور يزيد الاختراع. وتناول المؤلف مفهوم الغرابة، وهو يتصل بالاختراع. فغرابة المعنى من صفات الشعر الجيد عند النقاد العرب، لكن بعضهم أنكر تكلّفها، ومنهم من جعلها في موقع غيبي، ومحضها أثراً نفسياً استلابياً يُسلم العقلَ لسلطة الصورة، ووصفها بأنها حركة نفسية تؤدي الى انفعال يؤتي أفضل الشعر. حتى ان بعضهم رأى أن محاكاة الحَسَن بالقبيح إغرابٌ مقبول، وأنه من تراث الأحلام، أو شبه الأحلام. واستنتج المؤلف ان مفهوم الغرابة اللفظية يكمل الصورة المجتمعية للفظ، كالشرف" فقد تصور بعضهم ان الغريب كالمجتمع البدوي البعيد من العمران، الصعب القياد، حتى كادوا يفرقون بين الغريب والسهل تفريقهم بين المجتمع البدوي والمجتمع الحضري، موحين ضرورة الفصل بينهما. ويجاور الغرابة، عنده، مفهوم الغموض، وقد تناول النقاد جميع النواحي المفضية الى افتقار المعنى الى الوضوح، وعلى مختلف الدرجات، ورأت غالبيتهم ان الغموض الكثير من عيوب الشعر، والقليل منه محمود، لكن منهم من أكد ان الغموض خصوصية الشعر الجيّد، ومنهم من رأى أن الغموض شر كله. والمؤكد أن مطلب الوضوح وعدم اعتياد النقاد الأساليب التصويرية الجديدة جنى، أحياناً، على روائع شعرية. وتناول مفهوم الجزالة الذي يوحي النقاد أنه وصف لحال المتلقي النفسية عند سماعه بعض الألفاظ أو التراكيب الفخمة، أكثر مما هو وصف للفظ نفسه. وتناول من المفاهيم المتصلة باللفظ مفهوم العذوبة، وقد بدت شرطاً لازماً للشعر، وكانت من معايير التفاضل بين الشعراء، وحظيت بتقدير كبير لأثرها الموسيقي النفسيّ. وتناول الرشاقة أيضاً، وهي كالعذوبة ذات صبغة موسيقية، يوحي القاضي الجرجاني أنها من خصائص الشعر المولّد والحضري" وجعلها صورة لأدب العصر والبيئة الحديثة، تتوسط بين السوقية والخنوثة من جهة، والبداوة والوحشية من جهة أخرى. وفي نتاج الكتاب لاحظ المؤلف صعوبة تحديد ملكية المصطلحات أو بداية كل منها، وكون أكثرها مبهماً أو متعدد الدلالة، وأن العلاقة بينها وبين جذورها اللغوية ومعانيها الأصلية لم تكن واضحة دائماً، وأن بعضهم أخذ مصطلحات يونانية من "كتاب الشعر" لأرسطو أو تلخيصه، أو حاول استعارة مصطلحات عربية لمفاهيم يونانية من غير أن يربط نسبٌ بين المفهوم والمصطلح المقابل، وأنهم كانوا يفتقرون الى منظومة اصطلاحية واضحة يعيّنون فيها حدود المصطلحات ومفاهيمها. وابتدع المؤلف مصطلحاً لم يستخدمه القدماء بل استنتجه من عباراتهم العامة هو مصطلح ما فوق التعليل والتعبير، كما وضع مصطلحاً دلالياً مساعداً سمّاه التحميل، وذلك ترجمةً لConnatation، خلافاً للترجمات السابقة لهذا المصطلح القريب من مصطلح عبدالقاهر الجرجاني "معنى المعنى". وانتهى الى أن العرب شرعوا يضعون مصطلحاتهم النقدية أو يرتجلونها في زمن مبكر، وقبل كثير من الشعوب" ولهذا انعكست فيها وجوه من صور حياتهم القديمة البسيطة، حتى تماهى الإنسان وبيئته مع اصطلاحه الأدبي، وعسُر أن نجد مقابلاً لبعض مصطلحاتهم في لغات أخرى، ولا سيما أن من المصطلحات ما يصوِّر المزاج العربي ويكشف عن انفعاليته وقوة عاطفته، كمصطلحي الطرب والشهوة، اللذين لو وقع عليهما فرويد فربما وسّع نظرياته النفسية، أو وجد لها سنداً من لغة النقد العربي. وأوضح ان العرب أسقطوا عقائدهم الغيبية على الشعر، من غير أن يمنعهم ذلك من الكلام على الاختراع ومن الايحاء بتحرّر الشاعر من سلطة الجن أو الغيب عموماً، وبأن الطبع مصدر للشعر، وبأن سلطة الإنسان الشعرية وقدراته التعبيرية أقوى من السلطات غير المرئية. ان قارئ كتاب مصطفى الجوزو هذا يلاحظ مقاربات جديدة للنقد الأدبي العربي لم يظفر بها من قبل" ليس لأن المؤلف انفرد بدراسة مصطلحية مفهومية بكر فحسب، بل لأنه دخل أعماقاً جديدة جداً هي الأعماق الغيبية والنفسية التي لم يتركها، حتى عندما تناول ما تعلق بالمفاهيم التأسيسية وما اتصل باللفظ والمعنى. ولكن المعنيين بالفلسفة قد يأخدون عليه عدم تخصيصه قسماً من كتابه للمصطلحات الفلسفية والمنطقية في النقد العربي، وقد تأثر ذلك النقد بالفلسفة والمنطق كثيراً حتى صدرت دراسات مختلفة عن نظرات الفلاسفة العرب والمسلمين الشعرية، وربما تمنوا أن يتناول ذلك في جزء تال من كتابه، لكن ينبغي الاعتراف مع ذلك بأنه لم يهمل آراء الفلاسفة، وأنه وقع على اكتشاف فلسفي يُغبط عليه، هو أن عبدالقاهر الجرجاني استخدم مصطلح "العقل المحض" وربما كان هو مبتكره، سابقاً الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط بقرون متعددة الى استعماله ومعالجة مفهومه، لكن من منظور مختلف. وينبغي لنا الاعتراف كذلك بأنه حين تناول المصطلحات الغيبية والنفسية جاور الفلسفة ودخل فيها أحياناً، وخصوصاً عندما ناقش البعد الحقيقي لبعض المصطلحات أو الأفكار كفكرة ما لا يعلل وما يتجاوز التعبير. وللغة فلسفةٌ أيضاً: فحين اكتشف المؤلف موقف القاضي الجرجاني القائل بالمضمون المعنوي لإنشاد الشعر، أي لطريقة إلقاء الشاعر وتعبير وجهه وحركاته، وجعل ذلك من ضرورات فهم الشعر، فقد دخل في فلسفة اللغة الشعرية، عفواً أو عن عمد. يبقى أن نتساءل عن اهمال المؤلف مصطلحات مهمة تدخل ضمن الأقسام التي اختارها لكتابه مثل مصطلحات: الاعتدال والإنشاد والاناقة والإيقاع والبهاء والتعقيد والتهذيب والجمال والذوق والرونق والسهولة والصنعة، مع أنه عرض لأكثرها مراراً ضمن دراسته المصطلحات الأخرى. صحيح انها قد لا تكون داخلة في خطة كتابه، وهذا حقه، لكن من حقنا عليه أيضاً أن يبين لنا سبب عدم ادخالها في تلك الخطة. على ان هذا التساؤل لا يغض من قيمة الكتاب، وكبير نفعه وفائدته العلمية والأكاديمية، ولا ينفي أنه ربما كان أول كتاب من نوعه. * نظريات الشعر عند العرب - 2: نظريات تأسيسية ومفاهيم ومصطلحات دار الطليعة بيروت، 1423ه - 2002م، 450 صفحة من القطع الكبير. * كاتب، أستاذ في الجامعة اللبنانية.