قدم المخرج الإيراني عباس كياروستامي فيلمه الجديد "عشرة" في مهرجان "كان" في دورته الفائتة. الفيلم - بحسب النقاد - لم يكن في سوية افلامه السابقة، ولكنه تميز بطابعه الجريء الذي يناقش اوضاع المرأة من الداخل من دون لف أو مداورة، على رغم ان افلامه السابقة جاءت على هذا القدر أو ذاك من التحفظ بخصوص المرأة، حتى انها غابت عن بعضها تماماً تحاشياً للرقابة التي توصف في ايران بالمتشددة. حتى ان كياروستامي نفسه كما صرح تردد كثيراً قبل اقدامه على اخراج فيلم سيعترض عليه الرقيب سلفاً، لكن، لأن ايران هي بلد المفاجآت التي لا تنتهي، قدم الفيلم من دون اعتراض يذكر من الرقيب وأهله. والفيلم يناقش مشكلة الدعارة في بلد تحكمه التناقضات فثمة - بحسب كياروستامي - نساء يعشن في الكهوف، ونساء يعشن على الطريقة الغربية. إذاً، جاء فيلم "عشرة" مخيباً للآمال من مخرج لا حدود امام طموحاته، فهو فارس نوع من الأفلام لا يكلف شيئاً، وهي الأفلام ذاتها التي تباع وتعرض في كل مكان من العالم، من اندونيسيا وحتى فرنسا، وقد اصبح يمثل في بلاده ضميراً للسينما الفقيرة النائية بنفسها عن الحشرجات التقنية، على رغم ان الإقبال على افلامه في ايران لا يعتبر كثيفاً بأي حال من الأحوال، فنيله سعفة "كان" الذهبية عام 1997 قوبل بالاستهجان والشك والريبة من مواطنيه .... وكياروستامي قبل كل شيء معاند في البحث عن موضوعاته، ومجالد نبيل في صنع سينما مخنوقة مالياً، فالأفلام عنده تجر بعضها من داخل الأفلام ذاتها، وهو لا يلبث يراقب العالم من شباك سيارته - تماماً كما هي الحال مع بطلة فيلمه "عشرة" مينة اكبري، اذ لطالما بدا انه صاحب فكرة وضع العالم الخارجي ضمن اطار مخفف من وطأة النسق البصري. من يشاهد فيلم "تستمر الحياة" يكتشف ببساطة مثل هذا الادعاء، فالسائق الذي يقصد قرية كوكر مسرح فيلم "اين يسكن الصديق" للبحث عن احمد الذي قضى زمن الشريط الفيلمي وهو يدور بحثاً عن نعمت زادة ليعطيه دفتر الفروض المدرسية، وربما قضى نحبه بفعل الزلزال الذي ضرب القرية، ليرد عن فروض الغائبين نسق الحياة ذاتها، وهو النسق المبتكر الذي يشيد كياروستامي افلامه عليه من دون انخطاف حكائي لا طائل منه. وهو - المخرج في الواقع - او ساحر المرآة التي طالما جرى الحديث عنها في الخفاء، لأنه ببساطة مولد للأحاسيس والأساطير في الوقت ذاته، فطريقته في وضع ابطاله امام المرآة، بما فيها من التباس وواقعية ... وقدرة غير منكرة في التخيل والاصطفاء، فهو غالباً ما يعود الى اماكن الفيلم الأول ليصور فيلماً ثانياً، إذ ان زيارة قباء السينمات الميتة تولد الظلال الراجعة مع انطباق المساء، حتى اننا ننقاد الى التساؤل الآتي: هل ما يجري في افلامه هو تصوير عملية تصوير الواقع؟! ففي تردده الشعوري نراه هائماً بخلق تلك الحدود الزمنية الشائكة بين الصدق والكذب. بين الافتعال والانفعال، بين الشك واليقين. فالمتهم حسين سابزيان الذي ينتحل شخصية المخرج محسن مخملباف في فيلم "كلوز - اب" ليمارس سحر الإفضاء السينمائي بين هذه الحدود، نراه يتحدث بجدة دافقة عن معرفته باللقطة المقرّبة، وتقنيات السينما والممثل. هذا السحر الواقعي يدفع كياروستامي في قاعة المحاكمة الى التحدث مباشرة مع سابزيان. إننا نسمع صوته بحضور القاضي الحقيقي المشغول ظاهرياً بتصوير المحاكمة من جديد، فيما يحاول كشف هذا الإفضاء - اللغز المؤدي الى سحر السينما، والذي يدفع بكياروستامي الى توريط مخملباف الحقيقي بمشاهد في الفيلم، وهو يقود دراجة نارية برفقة سابزيان المحتال الخلاّق. كل الرموز "المغلقة" في الحوار لا تعفي سابزيان من تهمة الاحتيال الواقعية، كما انها لا تمنعه من التماهي مع حال المخرج التي تعكس في مرآة الساحر الخيالية كل تلك المرحلة الأسطورية لأبطاله - بمن فيهم سابزيان - حتى وإن اختلفوا في كل فيلم على حدة من حيث الأشكال والإرادات والوجوه... وساحر المرآة يكاد يشبه نفسه في مرآة غيره، فطريقه الحلزونية المنظور الخاص بكياروستامي لا تكتمل إلا برفقة مخملباف الحقيقي وهو يقود الدراجة بسابزيان، العابر المستقيم للظلال. هذه الظلال، هي اللحظات الحقيقية التي تخفف من درجات الانطفاء ان تبدت على اشكال معجزات يومية. ولا شك في ان العجوز - جد احمد - في فيلم "اين يسكن الصديق" الذي يريد تمرير صورته على شكل نسق بصري الى حفيده، بالطلب إليه احضار سجائره على رغم امتلاكه لها في اللحظات الواقعية، فأبوه من قبل كان يعاقبه كل اسبوع ويمنحه توماناً العملة الإيرانية، وأحياناً كان يعاقبه وينسى إعطاءه التومان. وحتى لو ذهب احمد من وقته واشترى السجائر، فهو تعلل بشراء الخبز، فإن الصورة ستمر بصفتها تضميناً بصرياً فالتاً من حضن غول المرآة، مرآة الساحر المثبتة في اعماق الصبي، وغير الموجودة في الواقع التعسفي الذي يخلفه الجد. وغالباً من بعد الدوران حول المرآة تكاد الاتهامات ليكاروستامي بخصوص التشوش العالق بالخواتيم. ففي فيلم "طعم الكرز" تكون نهاية بادي غريبة بعض الشيء، ففيما هو يشرع بالانتحار نراه يدخن السيجار ويتلذذ، ذلك ان الحياة ستستمر من دونه، وهو ربما لا يعي ان سيرها لن يختل، وإن احداً من عناصرها لن يفتقده، فلمَ لا يأنس هو بما تبقى من وديعة الحياة بالدوران من حول هذه المرآة. والكثيرون يقفون امام افكار كياروستامي وسرعته في انهاء أفلامه التي توحي بالارتباك الداخلي متبصرين فيها على عجل، فلا ينكرون التشوش، ويرون ان "خطأه" الأساسي يكمن في ذلك الإيقاع المكهرب الذي يحدده لقصصه من خلال البرواز الأنيق الذي يحيط بمرآته السحرية. فيلم "تستمر الحياة" تعليمات صادرة عن هذا الإيقاع. فالسائق وابنه يتتبعان اثر احمد ابن قرية بوشته، فلا يجدان له أثراً في الفيلم او بين مخلفات الديكور الحي، فيما يؤكد له اهل القرية المدمرة معرفتهم بفيلم "اين يسكن الصديق" ومخرجه وأبطاله. حكايات غير منتظرة كياروستامي لا يقوم في تصوير افلامه على تحقيق اي من درجات الالتباس والتشوش، فهو غالباً ما يجيء بحكايات غير منتظرة، وهو يبحث عن جوانيات مشهدية تخصه، فنرى المهندس بهزاد في فيلم "سوف تحملنا الرياح" الغارق في بلور انانيته، والذي ينتظر موت عجوز مقعدة لا احد يعرف عنها شيئاً، لا لشيء سيقال، فما من شيء ينبغي اصلاً عن قرية الوادي الأسود التي لا يصل إليها المهندس الا عبر طريق حلزونية ملتفة تفوق اكثر الأحلام اخضراراً ويناعة. وبالتالي يصبح على جمهور افلام كياروستامي الانحياز الى هذه الحكايات حتى يتمكن من اكتشاف المحتوى الأساسي لهذه الأنساق البصرية كما نراها في افلامه وتظهيره. كياروستامي يمتلك موهبة على نقيض موهبة كياروستامي نفسه، فمكانه الأثير هو بين الأوتوسترادات الفيلمية المؤرقة للجمهور. إذ لطالما بدا مغرماً بالحياة على طريقة فيلليني نفسه...!! في أفلامه حكايات غريبة لا نهايات لها، وحكايات بعيدة مخوّفة، ووجوه ايقونية لها صدى هذا القاع، والذي تختفي وراءه سنوات المراهقة زينب من فيلم "سوف تحملنا الرياح"، وهي تقف عند البئر اياماً للقاء حبيبها يوسف، فيما يقرأ عليها المهندس بهزاد مقاطع من قصيدة للشاعرة الإيرانية فوروغ فرح زاد عن ارض تكف عن الدوران وراء هذه النافذة... او تلك الطريق المسدودة واقعياً امام السائق - المخرج من فيلم اين يسكن الصديق. وكل تلك الخطوات الشحيحة المتثاقلة والمصائر البعيدة من اصحابها، والقلوب المنطفئة في الصور الميتة، وحقول القمح التي تميزها المساءات الراحلة ببطء عنها، والأرواح القلقة المتبوعة بشيء من الغموض الطفيف واللوعة الحاسرة الرأس والقدمين. سينما كياروستامي، سينما الكلمة التي لا تتأرجح في النص السينمائي المفتوح. سينما قريبة من محتوى الكتابة ذاتها، والتي تسمح مع بعض البغض بسماع اشياء لا نود سماعها، ورؤية اشياء لا نريد رؤيتها، ففيها نصوص المعلمين والجدود الموتى الفائزين بحليّ الصمت وفرضيات الديكورات الحية. لا يتأرجح النص ابداً امام نهاية طريق احمد الواقع، فهو ينهيه بيده، عبر تردده في الوصول الى بيت صديقه، او هو عش النور في قصيدة زوهراب سيبهدي ليخطف البيضة، التي تنبجس منها اساطير الأرض ونصوص العجوز المرافق له ليدله الى العش، فهو اي العجوز ينسب لنفسه صناعة كل شبابيك القرية، بمعنى آخر هو ينسب لنفسه كل اطارات العالم المحيط بالصغير، وينسب روح المكان إليه، فتتبدى في نهاية الطريق وردة العزلة التي تختفي وراء سنوات المراهقة. هذه النصوص هي التي تدفع بالمهندس بهزاد للصعود وراء طبيب القرى المتجول في "سوف تحملنا الرياح" على دراجة نارية هي وسلته الوحيدة للتنقل بين الأزمنة الغامضة للاستماع الى الشكوك التي تدفع بالطبيب الى تغسيل اقمار هذه الأزمنة بالماء المقدس. وهذه الأقمار لا تتأرجح في وجود النص السينمائي، فأفلامه كلها تقع روائياً ما بعد النص، حتى ان صناعة الفيلم من محتوى الفيلم السابق تصبح زيارة نهارية للمشاهد، مثل زيارة الطبيب للعجوز المقعدة التي ينتظر الجميع موتها، فينشغل هو بدبيب سنوات عمرها الهاربة ليغويها بالحياة، ويبدأ بتحليل وجهة نظره من خلال اطار الريح الذي لا يفضي الى اي مكان. هل يريد الزائر الغامض ان يقول شيئاً؟ لا... فأبطال كياروستامي لا يقولون شيئاً في العادة، وهو يراقبهم، ويراقب خلجات اصواتهم، وهو يتدخل بصوته ويعزل القاضي الحقيقي عن المتهم، ويفسد اللعبة، ويترك لسابزيان حرية التهكم، واختيار اللغة التي يريدها، في الوقت الذي يريد فيه ان يظهر شيئاً مهماً في هذه اللقطة المقربة كلوز - آب التي تبدو في الواقع انها تخص كياروستامي نفسه اكثر من المحتال، ذلك ان كل "الإرباكات" المتعلقة بأفلامه يمكن ان تستعاد من دون ان تتأثر مكانتها لأن السؤال يكمن في قبول، أو عدم قبول، سينماه... وهذا هو مصدر الصعوبة في ان يكون واحداً غيره هو عباس كياروستامي... حتى لو جاء فيلم "عشرة" - بحسب النقاد - مخيباً للآمال...؟!!