هناك، في نهاية الأمر، اثنان "سيرانو دي برجراك": الأول حقيقي عاش في عالمنا هذا وعاش مغامراته وحياته وغرامه وآلامه قبل ان يرحل باكراً. والثاني هو ذاك الذي كتب عنه الفرنسي ادمون روستان مسرحيته الأشهر والتي تحمل تحديداً اسم "سيرانو دي برجراك". وهذه المسرحية التي كتبها روستان شعراً، وقدمت للمرة الأولى في باريس في العام 1897 تعتبر اشهر نتاجات المسرح الشعبي الفرنسي خلال تلك المرحلة المفصلية الممتدة عند منعطف قرنين من الزمن. ذلك ان روستان حين اختار ان يكتب عن "الشاعر غريب الأطوار" استخدم حقاً ما هو معروف عن هذا الأخير، لكنه راح يضفي عليه من عندياته بحيث حوله الى ما يشبه البطل الشعبي. وفي ذلك الحين في فرنسا، كما في غير فرنسا، كان الزمن زمن البحث عن أبطال من نوع جديد: أبطال ذوي مشاعر وأحاسيس، ينجحون أحياناً ويخيب أملهم في أحيان أخرى، ويختلفون كلية عن الأبطال الذين كانوا رائجين حتى ذلك الحين: فهؤلاء، الأخيرون، كانوا دائماً أشبه بأنصاف آلهة، وحتى عذابهم وضروب يأسهم كانت سرعان ما تحسب لمصلحة انتصاراتهم النهائية، بمعنى ان البطل من ذلك النوع كان في حاجة الى "عبور الصحراء" لكي يصل في نهاية الأمر الى انتصاره النهائي الذي يضفي عليه الهالة المطلوبة. أما الأبطال الجدد، والذين كان الوعي الحديث، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد بدأ يتطلبهم، فكانوا من طينة أخرى، انهم أكثر ابتعاداً عن الآلهة، وأكثر اقتراباً من البشر العاديين. بل انهم بشر عاديون، كل ما في الأمر انهم يعيشون اخفاقاتهم ببطولة، طالما ان الاخفاق أكثر انسانية من الكمال. وسيرانوا دي برجراك كان من هذا النوع، تحديداً. كان انساناً. صحيح انه لم يكن الأول الذي قدمه المسرح. لكنه كان، على أية حال، من أوائل الأبطال المسرحيين الانسانيين، الذين "ركبت" المسرحية من حولهم ومن حول وجودهم الحقيقي. إذ عندما كان المتفرجون يتوجهون الى الصالة لمشاهدة المسرحية، كانوا يعرفون سلفاً كل ما ينتظرهم من أحداث ومن نهاية. المهم بالنسبة اليهم كان الكيفية التي سيعالج بها الكاتب الشخصية، ومدى ما شيد وهذه قريبة منهم، شعورياً، لتخاطب ما في جوانيتهم. والحال ان المرء ما كان في حاجة الى أن يكون مثقفاً أو متفرجاً من نوع متميز حتى يدرك هذه الأبعاد في ما كتبه ادمون روستان عن سيرانو دي برجراك. ان سيرانو الذي يقدمه روستان، كان شاعراً غريباً فوضوياً، ورجل جدال ومشاكسة لا يهدآن، وفيلسوفاً طليعياً وكاتباً مسرحياً، اضافة الى كونه فارساً مغواراً ومبارزاً من طراز رفيع. غير ان هذا كله لم يوفر السعادة. منذ الفصل الأول في المسرحية يكشف لنا روستان عن طبيعة سيرانو المركبة هذه، حيث نشاهده يمتشق كل قواه الجسدية والفكرية ليمنع تقديم مسرحية في "أوتيل نورغوني" لمجرد ان كاتب هذه المسرحية لا يعجبه. ثم خلال مبارزة يخوضها نكتشف مدى قدرته على ارتجال الشعر كما مدى حبه الرومانسي لحبيبته روكسانا. لكن روكسانا، وهي في الأصل ابنة عم سيرانو تهيم بآخر هو ضابط صف شاب من غاسكونيا، هو كريستيان، الفتى الوسيم والخالي من أية ابعاد روحية أو عاطفية في شخصيته. ولما كانت روكسانا تخاف على حبيبها كريستيان تحرش رفاقه العنيفين به، تطلب من ابن عمها المرعب سيرانو ان يتولى حمايته. وإذ يقبل سيرانو توفير هذه الحماية لغريمه، يطلب منه هذا الأخير ان يعلمه كيف يكون رجل فكر أيضاً، في زمن بات رجال الفكر فيه مرغوبين أكثر، من النساء. وهكذا يجد سيرانو نفسه وسط وضعية تسليه من جهة، وتؤلمه من جهة ثانية، إذ ها هو يكتب الرسالة تلو الأخرى مفعمة بالحب، وموجهة من كريستيان الى روكسانا، من دون ان تعلم هذه عن الخديعة شيئاً. وفي لحظة من اللحظات يقف سيرانو تحت شرفة روكسانا ويبثها لواعجه، على أساس ان المتحدث هو كريستيان ثم ما ان تنحني روكسانا لتقبيل حبيبها حتى يختفي سيرانو ليأخذ كريستيان مكانه ويقبلها. وهكذا تواصل روكسانا اعتقادها ان ما تسمعه أو تقرأه انما هو من بنات أفكار كريستيان، جاهلة حتى ان سيرانو يحبها. ويواصل هذا الأخير لعبته، حين يكتشف ان ثمة مغرماً آخر بروكسانا هو الدوق دي غيش، فيتدخل مفسداً على هذا الأخير كل خططه للدنو من الفاتنة. بعد ذلك، إذ يخلو درب الهوى لكريستيان وروكسانا يتزوج هذان. ولا يكون أمام الدوق دي غيش، إلا أن يسعى الى الانتقام من سيرانو ومن كريستيان في آن معاً، باعثاً اياهما للمشاركة في حصار عسكري. وخلال ذلك الحصار يُقتل كريستيان. وقبل موته يتفق مع سيرانو على ضرورة قول الحقيقة لروكسانا، حيث بات على سيرانو ان يقول لها انه هو الذي كان يكتب الرسائل، وانه هو الذي عليها ان تحب حقاً، إذا كانت تلك الرسائل قد أشعلت الهوى في أعماقها. غير ان سيرانو، وإذ تصل روكسانا الى المكان لتلقي النظرة الأخيرة على حبيبها وزوجها المقتول، يجبن عن الإفصاح بما كان يود الإفصاح عنه. أما روكسانا فإنها بعد تلك المأساة تنسحب لتعيش حزنها وذكرياتها في دير. وطوال السنوات الخمسة عشر التالية يحافظ سيرانو على زيارتها كل يوم سبت حيث يتجاذبان أطراف الحديث عن الراحل. وأخيراً إذ يقرر ذات يوم أن يزورها هذه المرة لكي يكشف لها السر العميق الذي احتفظ به، ولكي يرتبط بها أخيراً، لا يتمكن من المتابعة لأنه يموت في شكل غير متوقع. وهكذا تغرق روكسانا في حزنها مرة ثانية وهي في حداد على غرامها الذي خسرته مرتين. حين قدمت هذه المسرحية، وعلى رغم الاستقبال الكبير الذي خصها به الجمهور، انتقد النقاد حبكتها حتى وان كانت هذه الحبكة مستقاة من الحياة الحقيقية للشاعر الملعون. غير انهم اقروا في الوقت نفسه بأن روستان عرف حقاً كيف يرسم شخصية بطله: الشاعر المغرم ذي الأنف الكبير العجيب والقلب المحب الطيب. والفرنسيون، كما يقول الباحثون، يحبون هذه الشخصية وشكلت جزءاً من تراثهم الأدبي سواء أكان شعبياً أو نخبوياً. ومن هنا ظلت نظرة الجميع الى هذه المسرحية، تعتبرها عملاً مكتوباً من حول شخصية واحدة: انها مسرحية عن سيرانو، أما الآخرون فليسوا هنا إلا لكي يحيطوا هذه الشخصية بأجواء ترسمها رسماً حقيقياً. فإذا أضفنا الى هذا ذلك البعد الرومانسي الذي خيم على العمل ككل، يمكننا ان نفهم كيف ان هذه المسرحية ساهمت مساهمة أكيدة، في الزمن الذي وجدت فيه، في اعادة الاعتبار الى العقل والروح والعواطف، على حساب الأشياء المادية. فالمتفرج إذ يتعاطف هنا مع المحب صاحب الفكر، ضد العشاق الأكثر منه اكتمالاً من الناحية الشكلية، انما اضاء الطريق لتيار كبير من الأعمال التي صارت تحتفل ببطولة المضمون، لدى الإنسان، على حساب بطولة الشكل. وهذا ما كان عليه دأب ادمون روستاف 1868 - 1918 في أعماله المسرحية كلها، حين زاوج بين الروح والفكر، وبين واقعية مطلقة ورومانسية حادة. ما جعل أعماله المسرحية تترجم الى لغات عدة منها العربية حيث كانت مسرحيات له مثل "النسر الصغير" و"سيرانو"، جزءاً من الريبرتوار المسرحي العربي أول عهد المسرح عندنا.