تكاد الشهرة الواسعة التي حققها الكاتب الايطالي لويجي بيرانديلو في الكتابة المسرحية، والتي توجت بجائزة نوبل للأدب عام 1934 تطغى على كتاباته الروائية والقصصية، ومنها سبع روايات كتبها في نحو ثلاثين عاماً الى جانب انشغاله المستمر بالكتابة المسرحية ومتاعب الحياة اليومية والعائلية التي عاشها، ومنها متاعب عاطفية ثقيلة، كانت تضغط على حركته الدائبة في اتجاه الجنون الذي أصاب زوجته فعاش معها خمسة عشر عاماً، ولم يأخذها الى المصح إلا عندما يئس من قدرته على الاستمرار في هذه الحال التي تتوازى مع حال يأس أخرى، تتمثل في حب من طرف واحد، كان يعانيه، مع واحدة من أبرز ممثلات مسرحياته. كتب بيرانديلو 1867 - 1936 رواية "الشيوخ والشباب" ترجمة: علي باشا، وزارة الثقافة - دمشق على مدى أكثر من عشرين عاماً، ربما لأنها رواية تاريخية عن فترة حديثة العهد، تحتاج الى التدقيق في أحداثها وشخصياتها، وهي فترة توحيد ايطاليا التي قادها غاريبالدي في "حملة الألف" عام 1860 بعد اخفاق الحركة الثورية الأولى في عام 1848، حيث كانت جمهورية فينيسيا تتبع حكم آل هابسبورغ في النمسا، ولم تتحد مع ايطاليا إلا في عام 1866، أي بعد ست سنوات من انضمام صقلية الى ايطاليا، بينما أصبحت روما عاصمة للدولة الايطالية الموحدة عام 1870. هذه التحولات الكبيرة كانت مفتوحة على احتمالات مفتوحة، في ذهن بيرانديلو على الأقل، جاءت من خلال تحولات عائلة واحدة في مدينة صقلية، فهل نستطيع تكبير صورة هذه العائلة كي نرى فيها صورة صقلية ثم صورة ايطاليا في تلك المرحلة؟ لم تكن ايطاليا، بعد توحيدها، بعيدة من موجة الروايات التاريخية التي واكبت النهضة الصناعية في أوروبا، في القرن التاسع عشر، والتي برزت في كتابات ديكنز وبلزاك وتولستوي، ففي العقد الأخير من ذلك القرن نشرت روايتان ايطاليتان تتحدثان عن المجتمع الصقلي الذي يعرفه بيرانديلو جيداً، بكل تناقضاته الحادة التي لا تزال مستمرة بعنف متجدد، والتي رسمها بيرانديلو ولم يقترح لها حلاً واضحاً يمكن ان يمحو الصراع بين الشيوخ والشباب أو بين فساد الأغنياء وجهل الفقراء، وربما كان هذا الموقف المتردد دافعاً وراء تبني بيرانديلو للأفكار الفاشية التي نمت في ايطاليا بعد سنوات عدة، واستمرت في صعودها بالتوازي مع النازية في المانيا، قبل تحالفهما الذي مهد لنشوب الحرب العالمية الثانية. يؤكد ماريو فوسكو في تقديمه هذه الرواية انها تحمل دلالة سياسية لدى بيرانديلو الذي كان يعاني من الآثار الباقية من الماضي القريب، وأن هذه التداخلات بين عدد من شخصيات الرواية وبين بعض الوجوه المعروفة جيداً في أغريغنتي، وبعضها قريبة جداً منه: اثنتان منهما، ستيفانو أوريتي، وكاترينا لورنتانو، تحملان اسمي والدي بيرانديلو بالذات، وهذا طبعاً ليس بمحض المصادفة، فهذه التداخلات والتشابه في الأسماء تعطي لهذه الرواية طابع السيرة الذاتية، التي قال مؤلفها انه أراد أن يصف فيها مأساة أبناء جيله: "... كل شيء كان رأساً على عقب، كل شيء، هنا في روما، الفوضى الكريهة الناجمة عن عمليات النصب والاحتيال المعيبة، وفي صقلية، تتفاعل عوامل الثورة، ووسط عويل أحط الأهواء التي انطلقت عبر دمار الضمير الوطني، لم يكد يُسمع صوت اطلاق النار والتراشق بالرصاص، الذي كان يحدث في مكان بعيد، النذير الأول لعاصفة أخذت تشتد وتتسع في شكل رهيب". تغطي رواية "الشيوخ والشباب" الأحداث التي جرت، بين عامي 1848 و1895، في صقلية، من خلال أسرة اشترك أفرادها من جيلين مختلفين من تلك الأحداث، ومع ذلك فإن الكبار كانوا ينتمون الى جهتين مختلفتين، بعضهم يقف الى جانب آل بوربون الذين حكموا نابولي، بينما يقف بعضهم الآخر مع أنصار غاريبالدي الذين يقاتلون من أجل توحيد ايطاليا، أما الذين ينتمون الى جيل الشباب فإنهم جنحوا الى اغراءات الحياة في العاصمة الجديدة روما، بما فيها من اغراءات الطموحات السياسية، غير أن ميراث التناقضات كان يطفو على سطح الحياة على شكل انهيارات اقتصادية واجتماعية واضحة، وأبرزت الانتخابات التي جرت في صقلية عمق الصراعات الماثلة بعد التوحيد، وكانت اغريغنتي، مسقط رأس بيرانديلو، مسرحاً حياً لتلك الصراعات بين الأحزاب المختلفة، وهي تشكل اضافة الى الصراع بين الشمال والجنوب في ايطاليا، حيث تمثل صقلية نهاية الجنوب، وهي الضحية الأولى في ذلك الصراع، حيث صارت موزعة بين كبار ملاكي الأراضي ومستثمري مناجم الملح والكبريت وممثلي السلطة الادارية، وكلهم وافدون من الشمال. أما بيرانديلو الذي أعطى لبعض شخصيات روايته أقنعة مألوفة في أعماله المسرحية، فإنه ظل محكوماً، في هذه الرواية، بالفكرة التي يمكن أن تقال عن مسرحياته: المسرح هو الحقيقة والتنكر هو العري والقناع هو الواقع الفعلي.