يولي الرأي العام العالمي الآن اهمية قصوى لاجراء الاصلاحات داخل السلطة الفلسطينية. فالرئيس الاميركي جورج بوش طالب بها، والاتحاد الاوروبي اعتمدها شعاراً، وارييل شارون جعلها حجر عثرة امام العودة الى طاولة المفاوضات. في المقابل يتوالى القادة العرب على مدح انجازات رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، فلا احد يشكك بأهميته، وما قد يفعل؟! لا بد من وضع حد لفساد الادارة الفلسطينية وعدم محاسبتها وغياب شفافيتها. واظهرت استطلاعات الرأي التي اجريت بعد الاجتياح الاسرائيلي الأخير للأراضي الفلسطينية ان اكثر من 90 في المئة من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة يؤيدون التغيير الجذري داخل السلطة. وبعيداً من هذا الاجماع المتوقع، لأن لا احد يعارض اتاحة حيز اكبر للديموقراطية وتقليص مساحة الفساد، يصبح من الضروري قراءة السرائر. فلنذكر بادئ ذي بدء ان التقصير الصارخ للادارة الفلسطينية، لا سيما في مجال حقوق الانسان، هو نتيجة السياسة التي اعتمدها "المجتمع الدولي" واسرائيل، اللذان طلبا من عرفات محاربة الارهاب في مقابل اطلاق يده في المجالات الأخرى كافة. وقبل ايام معدودة من توقيع اتفاقات اوسلو في 13 ايلول سبتمبر 1993، قال رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك اسحق رابين: "افضل ان يتولى الفلسطينيون مهمة الحفاظ على امنهم في غزة، فبهذه الطريقة لن يلجأوا الى المحكمة الاسرائيلية العليا، كما ان الاتحاد الاسرائيلي للحقوق المدنية لن ينتقد ما يحصل عندهم لأنهم سيمنعون دخول اعضائه. فليحكموا مناطقهم بوسائلهم الخاصة". ومنذ بعض الوقت وافقت الولاياتالمتحدة - التي طالبت في 1994- 1995 بانشاء محاكم استثنائية فلسطينية لمحاكمة الارهابيين - على الحكم الصادر بحق المتهمين باغتيال وزير السياحة الاسرائيلي رحبعام زئيفي في ظروف غير مقبولة، لأن المحاكمة جرت في "المقاطعة" وتحت ضغط المدفعية الاسرائيلية. وطيلة سنوات اوسلو لم تكترث الولاياتالمتحدة او اسرائيل لحقوق الانسان في الضفة او القطاع، كما لم تهتما ب"حسن الادارة" بينما كان التهريب والفساد يغذيان القنوات الاسرائىلية والفلسطينية على حد سواء. لِمَ اذاً هذا الاندفاع المفاجىء تجاه الاصلاح الفلسطيني؟ ففي كل مرة كان الجانب الاسرائيلي يختلق ذرائع جديدة لاجهاض كل نقاش سياسي. وعلى مدى شهور طالب الاسرائيليون ب"أسبوع هدنة" من العنف لاعادة اطلاق المفاوضات. اما عرفات فقدم هدنة اطول بكثير اثر خطابه الذي القاه منتصف كانون الأول ديسمبر 2001، لكن شارون كعادته رفض ان يفاوض. واليوم ها هو يطالب بتجديد السلطة الفلسطينية، ولكن، من يصدق ان الحكومة الاسرائيلية مستعدة للتفاوض مع ادارة فلسطينية ديموقراطية في شأن الانسحاب من الاراضي المحتلة ينسى ان الجنرال شارون منذ تسلّمه السلطة في شباط فبراير 2001 لم يتنازل يوماً عن هدفه الاساسي المتمثل في ابقاء الضفة تحت السيطرة الاسرائيلية، ونسف اتفاقات اوسلو التي وصفها بأنها "اكبر كارثة تحل باسرائىل". انه عازم على التخلص من السلطة الفلسطينية واعدام الشعب الفلسطيني عبر صك تنازل عن كل اشكال المقاومة. ألم يقل في 5 آذار مارس الماضي "يجب ان نسحقهم ونلحق بهم خسائر فادحة كي يفهموا ان المكاسب السياسية لا تحقق بالعنف"؟ بالتالي هو يطمح الى جعل الفلسطينيين يقبلون "الوصاية الطويلة الأمد" التي كان ينادي بها منذ العام 1998، وذلك بعد التخلص من السلطة الفلسطينية ومن السيد عرفات. وتقضي هذه الوصاية بزج مجموعات الفلسطينيين في "غيتوات" حكم ذاتي تطوقها مستعمرات يهودية لا تكف عن التوسع وتضييق الخناق منذ اتفاقات اوسلو. اي انه يحق للفلسطينيين ان يتحكموا بشؤونهم الادارية لكنهم لن ينعموا ابداً بالسيادة. وحاولت اعتداءات نيسان ابريل تحقيق هذا الهدف عبر تطبيق استراتيجية مزدوجة، فهي هاجمت كل ما تمثله السلطة الفلسطينية من رموز وأدوات، فاعتدت على جهاز الشرطة والوزارات، واتلفت وثائقها الادارية، ومن جهة اخرى اتبعت سياسة الأرض المحروقة في البنى التحتية ومخيمات اللاجئين والمستشفيات، ووضعت الحواجز والعوائق امام سيارات الاسعاف والمسعفين، ما دفع اللجنة الدولية للصليب الاحمر الى الاعتراض، وهو أمر نادر. والآن اثبتت حكومة شارون فشلها بينما لا تزال السلطة واقفة على رغم ضعفها. وبقيت ارادة الشعب الفلسطيني في المقاومة صلبة، وهو ما اثبتته سرعة المدن الفلسطينية في تضميد جراحها واعادة اعمار ذاتها واستعادة حياتها "الطبيعية". لكن التهديد دائم لأن الجيش الاسرائيلي زاد توغله ليثبت ان المناطق "أ" لم تعد موجودة. وحكومة شارون لن تتنازل عن اهدافها الاستراتيجية ولو اخذت في الاعتبار الضغوط الدولية وانقساماتها الداخلية، والمقاومة الفلسطينية. وبينما يلهي شارون المنظمات بمطالبه، يطرح امام المجتمع الدولي سياسة تخرق اتفاقات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين في الأراضي المحتلة. وعلى رغم التقشف الذي تعيشه اسرائيل زاد الاستثمار في شكل ملحوظ في المستعمرات عام 2002 قياساً الى ما كان متوقعاً، واطلقت الحكومة الاسبوع الماضي استدراج عروض لألف وحدة سكنية في المستعمرات المنشأة على مساحة 7،1 في المئة من الضفة الغربية التي تشكل حدودها العقارية 8،6 في المئة من الاراضي بينما تغطي نصفها فعلياً. فهل هناك دولة طالبت بوقف هذا الاستعمار واعتبار ذلك شرطاً اساسياً لاستئناف المفاوضات؟ اضافة الى ذلك، تنشئ اسرائيل مناطق معزولة وتقسم الضفة الى كانتونات، ما يتنافى مع اتفاقات اوسلو. ويفرض هذا الاجراء على الفلسطينيين ان يطلبوا تصريحاً من الحكومة الاسرائيلية كلما ارادوا التنقل بين مدينتين فلسطينيتين. وتخدم هذه الأذونات حاملها لشهر قابل للتجديد. ويمنع التجول بين السابعة مساء والسابعة صباحاً، فتغلق القدس ابوابها ولا يعود بامكان فلسطينيي القدس التوجه الى مناطق الحكم الذاتي... إن بقي لهذه العبارة اي معنى. ولا تشذ البضائع عن هذه القاعدة، بل ان الطوق عليها أشد، اذ يتوجب على اصحاب الشاحنات التي تحمل لوحات اسرائيلية ان ينقلوا بضائعهم الى شاحنات تحمل لوحات فلسطينية. وهذا التدبير قادر على خنق شعب تعاني غالبيته فقراً مدقعاً. فأي حكومة في العالم اعتبرت احترام اسرائيل مبدأ "حرية حركة" الاشخاص والسلع شرطاً اساسياً للعودة الى المفاوضات؟ حكومة شارون تنتهك اتفاقات اوسلو التي كرسها المجتمع الدولي: تشيد المستعمرات التي رفضها المجتمع الدولي، وتضرب عرض الحائط بمبادئ حرية حركة السلع والبشر التي يدعو اليها المجتمع الدولي، ولكن في أماكن اخرى من العالم. فهل يجد هذا المجتمع الدولي جعل اصلاح السلطة الفلسطينية من اولوياته أمراً طبيعياً؟ لست بصدد الدفاع عن سلطة اثبتت عجزها في الدفاع عن شعبها وفشلها وضعفها، وان كان من المجدي احياناً وضع جدول اكثر دقة والاعتراف بالادارات التي عملت بجدية، لا سيما قطاع اعادة اعمار المدن الفلسطينية. يبقى ان المأزق الذي تمر به السلطة الفلسطينية لا يرتبط بها، وانما باستمرار الاحتلال وخرق الاسرائيليين المعاهدات الدولية التي اقرتها الاممالمتحدةواوسلو. انها السياسة الاسرائيلية التي يجب على المجتمع الدولي ان ينكب على اصلاحها. * رئيس تحرير "لوموند ديبلوماتيك".