القاهرة - "الحياة" - اسمي هالة تخرجت في كلية السياحة والفنادق العام 1994، ليس عسيراً على القراء أن يعرفوا ان عمري ناهز الثلاثين. أنا لست جميلة لكنني مؤدبة. فهل يستعيض المجتمع بالأدب عن الجمال؟ هذا السؤال راودني كثيراً. انتظرت طويلاً الاجابة عليه، كانت الاجابة إما "الصمت" أو "النفي". الحياة - بالنسبة لي - مسلسل متصل من الاكتئاب. وسر الاكتئاب هو والدي، وليس تواضع جمالي فقط. منذ نعومة أظافري كنت اسأل اين والدي؟ كانت امي تقول لي إنه استاذ جامعي في دولة الامارات. سافر منذ نحو 25 عاماً، ولم أره في حياتي سوى مرات معدودات، ولفترة قصيرة. يعود في السنة مرتين: المرة الأولى في اجازة نصف العام لمدة اسبوع واحد، والثانية في اجازة الصيف لمدة شهر متصل. أودعه كل مرة بالدموع، وأحزن في كل مرة عندما لا يعبأ بدموعي. عاهدت نفسي كثيراً ان انفصل عنه نفسياً، لكنني لم استطع. كثيراً ما قلت لنفسي: سيأتي يوم أجد فيه شريك الحياة الذي يعوضني حنان الأب "الغائب". لكنني لم أجده حتى الآن. طرق باب البيت عدد من العرسان لا بأس به، لكنهم كانوا إما طامعين في ارصدة أبي أو غير مناسبين لي على الاطلاق. مرت السنون، ووجدت نفسي أقع في فخ الوحدة القاتلة، صديقاتي تزوجن جميعاً، أخي يعمل قبطاناً، لا أراه إلا مرات قليلة طوال السنة، والدتي دائماً صامتة، علها تبحث عن زوجها - والدي مثلما أبحث عنه. عندما كنت صغيرة كانت الفلوس، الحفلات، الملابس الغالية، السيارة الفارهة تلهيني، ولكن منذ عامين تقريباً بدأت اختبر شعوراً قاتلاً بالوحدة ولم يستطع العمل أن يلهيني عن واقعي، بل لعله ادى الى زيادة معاناتي. اعمل في احدى شركات السياحة، وفي كل مرة اتعامل مع شخص جديد يسألني سؤالاً تقليدياً "هل أنتِ آنسة أم مدام؟" بماذا أناديكِ؟ منذ عامين وقعت فريسة للإحباط، وجدت نفسي ادخن بشراهة بالطبع من وراء ظهر أمي - خلف جدران الغرفة الخانقة - التي اعيش فيها. تقوقعت حول نفسي، لم أعد أفضل لقاء الناس حتى صديقاتي لم أعد اتصل بهن إلا نادراً، والغريب أن أمي لم تلاحظ التغيرات التي طرأت عليّ، كنت كلما شعرت بالاكتئاب أستقل سيارتي واتوقف في مكان مفتوح اتنسم الهواء وأدخن السجارة تلو الاخرى، وحتى هذه المتعة حُرمت منها، عندما وجدت الشباب يلاحقونني بتعليقاتهم الجارحة، توقفت عن ذلك. بدأت علاقاتي بالناس تتسم بالتذبذب الشديد، احياناً أكون هادئة مرحة بشوشة، وفي أحيان أخرى أكون عصبية عابسة مندفعة. لم يعد لي اصدقاء، كل من حولي يتعامل معي بحساسية مفرطة، إنهم يخشون رد فعلي في مواقف عديدة. الحدة أصبحت تغلف مواقف حياتي، اعود في المساء بخبرات الصباح المؤلمة، لم أعد أستطيع النوم بسهولة، لجأت للمهدئات، تحدثت في البداية مع طبيب نفسي. لم أجد حلاً بعد جلستين، اعتدت الذهاب الى صيدلانية، كانت زميلتي في المدرسة للحصول على حبوب مهدئة، أدمنت هذه الأقراص، لم أعد استطيع النوم من دونها. ماذا فعلت بحساب والدي بالبنك؟ هل جعلني اعيش سعيدة، هل اخرجني من دوامة الوحدة القاتلة والاكتئاب الحاد؟ الغريب ان والدي جاء لمصر اربع مرات في العامين الماضيين، ولم يلحظ التغيرات التي طرأت على حياتي، لم يلاحظ رغبتي في العزلة، ومزاجي المتقلب ونقصان وزني وعدم رغبتي في الحياة. أعتقد انه لا يريد ان يفهم! كنت في السابق اطلق ذهني في القصص والروايات التي احب قراءتها. ولكن لم أعد أميل الى ان اعيش في قصة شخص آخر غيري، يكفيني الآن العيش في قصتي.. قصتي وحدي.