تتحرّك مجموعة "ممالك عالية" للشاعر محمد علي شمس الدين دار الآداب بيروت 2002 ضمن ثلاث مراحل من حيث الهيكلية التي تتجسّد فيها أعمدة بناء الديوان وركائز عمارته الهندسية، أعني من حيث بنيته الخارجية، ولكنها في العمق تتكامل على مستوى المجموع وان في جدلية صراعية صاعدة فهابطة، كيف لا ونسيجها لغة محرورة بدم الأرض والحرية والعشق والحياة والموت والشعر والدين... منابع غنية للحساسية الفنية محورها الرئيس الانسان، يبوح او يخبّر يتغنّى او يدمع، لا يتناول تيمة الا عن اقتناع وصدق يتخذ من حسّه الرهيف موضوع فكر رصين في جوهر الحقائق وكل ما لها من امتداد وعمق، فكر لا يسلطن بل يكشف الذات على وعي بما هو في دخيلة نفسه، لا، ليس "أعلى الممالك ما يبنى على الأسل" بل في لغة الطيور والزهور والسطور، منطلق يسير به شمس الدين في محاولة تطوير لعالم القوة الحديد مع المتنبي فتتحول ممالك من حرية وغناء وشعر يماشي صاحبه والعصر، ممالك طالعة من أحاسيسه المرهفة وانغماره في عالم حقيقي يروح في تشييده نبضة نبضة بلغة لا تنشغل بنفسها وحسب. اذ من الواضح ان توظيف العمل الفني جاء تالياً للتجربة لا سابقاً لها، متشرباً نسغها وعصبها في تماهٍ لا يبلوره على تلك الحال سوى الوجع المحفور في الأعماق، سوى الصدق تضيئه شعرية حقة توهجت بعدما نضجت بفعل الثقافة والأحداث، بفعل ذائقة فنية رفيعة مما أمدّ نتاجه بخاصية من ذات نفسه انفرد بها ونفذ من خلالها الى مسائل الكون ليرتقي في نهاية المطاف الى اجواء الصوفية، فيحقق موضوعية الشعور الذاتي يقول: "فلماذا تسأل بحراً خارج ذاتك عن ذاتك؟" ص115. وفي موضوع آخر "وقل من أنت/ وماذا البحر/ وماذا البرّ/ وما البحارة/ والمركب/ والشطآن..." ص29. أقول يحقق موضوعية الشعور الذاتي مذيباً ثقافته الشاملة في عمل فني رفيع مداره الإيحاء في التعبير عن التجربة ودقائقها لا على تسمية ما تولّده في النفس من مشاعر مما يجعل قارئه ولو للحظة "كائناً نشيطاً مبدعاً" على حدّ تعبير كوليردج، واما ركيزة ذاك الإيحاء فهو المجاز والرمز خصوصاً مما أكسب الكلام سمواً وجاذبية لا يكسبه إياها شيء آخر على رأي ارسطو. من شعر التفعيلة الى العمودية الخليلية تكرج الصور في حقل مفهومي معجمي دلالي واحد هو القلق الوجودي، صور تشهد على خصب مخيّلة ولغة مطواعة، مشغولة بل محفورة بدقة الصائغ تنبض بشعرية فذّة ونغمية يبرع الشارع في التغني بها، نغمية تطلع من الداخل مثقلة بالأصداء تحركها تفعيلة منتقاة بذوق ورهافة وشفافية فائقة غافلاً العمودية متحرراً منها مع الحفاظ على جوهر الشعر وعلى إيقاعه الداخلي، او عمودية تسير بك الى فضاء من إيقاع عروضي يفيض حالات بديعة عذبة وتأملاً بعيد الغور. ومن النمطين نختار: "ورأيته يزن الرياح بكفّه/ ويقول: دوري/ ما شئتِ..." مطلع مغر يضعك مباشرة في جو المجموعة وكم موحية واو العطف في أول الكلام، وكم يمكنك تخيّل أمور سبقتها وكم ماهر صاحبها في الجذب والتشويق، أو قوله: "ربطنا الى البحر أعناقنا ومضينا" ص37. كيف لك ألا تنتشي وألا يتحرك مخيالك حين تقرأ: "يدق في صخر الجبال ضلوعه ليعيش منتشراً على الأكمات في لبنان...". أو "يمشي على الموت تيّاهاً كأنّ به/ من الألوهة سراً ليس يخفيه" ص135. اختيار البسيط المحبّب اختيار فطن أحضر في إيقاعه وفحواه اجواء المتنبي كما فعلت تلك النرجسية التي تعالت احياناً وأعادتنا الى مجد الشعر مع فحول الشعر التراثي فيحضر عنترة والأخطل وأحمد شوقي وفي التناص مع شاعر الجسر خليل حاوي، هذه الاجواء وغيرها كثير أحياها الشاعر فأزهرت بين يديه بسبب من فيض وجدان بخاصة، ومراس وعمق فكر فحبّب القارئ بالتفعيلة الحية المتحركة او الفراهيدية المسكوبة من غير تقعّر او ثقل أو حشو او طفيليات اذ ان الوزن يستقيم بالسهل الممتنع وتُخفى الصنعة وراء سلاسة التعبير، خليلية تستسيغها الأذن وتبعث النشوة والطرب على عمق تأمل في الانسان والوجود. هكذا تحتشد "ممالك عالية" بامتلاء شعري، تيمات نسجت كلها في اتساق وجِدّة ومهارة فنية توحي لك ان الشاعر لم ينطلق الا من نفسه، من عمق أعماقه، من أصالته المتأصلة في حساسية متافيزيقية ملحّة تجسّدت في المساءلة. شعر شمس الدين صيغة وجود بكل ما تحوي هذه الكلمة من معنى، هل أبالغ ان قلت في "المعلقة الثامنة" انها حكاية الانسان في كل مكان وزمان؟ من الأرض، والمكان امتداد الانسان انه بعده الكوني، الى الحب والألم واليأس والعدمية، الى غيرها من وقفات ومعاناة تتدفق منها اللغة وأحياناً تتكرر وكأنها ضاقت بنارها فانطلقت وراحت تتردّد وفق التداخل والتجانس اللفظي غالباً وهو ظلٌ لتداخل الأنا والأنت، ظل لوجه واحد هو الانسان: "انظر/ هل تبصر غير سحاب/ يرحل خلف سراب/ يرحل خلف سحاب/ خلف سرابٍ..." ص24. في العدمية ينتقل الشاعر بقارئه الى المساءلة والحكمة "من أنت؟". و"ماذا البحر؟"... الى تجربة الحب في ناسوس حيث تترقرق فيها حالته النفسية الداخلية الحميمة من خلال وجودها في العالم الفيزيائي وعلاقتها النابضة بالمادية والواقعية، أعني بالآخرة في حضوره المادي "ربطنا الى البحر اعناقنا ومضينا". "حيث تغفو الرياح على الزرقة النائية" تتعانق اللغة والذات في صور تكاد من النضارة تمطر كما ذكر أبو تمام، صور تتسربل في لغة النجوى الخافتة، كذا من الحب الى الحرية "قصيدتان للعصفور" الى البحث عن الذات ص89 الى التصورات الصوفية وفيها النضج المتكامل في الفحوى والبنية الخارجية، من الجذور الاصولية الى الأفق الحداثوي أنت امام شعر مركّب جامع، من جذور الطبيعة وعناصرها الريح - المياه الى الاجواء الملحمية احياناً الى النرسيسية المتعالية، من الشعر الى الدين والألم... ويضيق المجال للتفاصيل، عالم كثيف تطل من خلاله على ثقافة عربية وعالمية شكلت خيوطاً لعباءة قصائد شاهقة فإذا بك حيال مزيج ثرّ من تراث يتجدّد بين يديه فيهيئه للاستمرارية والحيوية ولا يحنطه بالتقليد والتكرار "فيحكم عليه بالعقم" على حدّ تعبير خالدة سعيد، انها مجموعة رؤى لمخيال خلاّق وفكر غاص في غور الوجود والماوراء مجموعة التيمات المعرفة اشرقت كلها ولمعت في كلمات ملتهبة تنبض من دم التجربة وفكر صاحبها لتقول انت في حضرة كبير من الشعراء.