"إيه رأيكم نلتقي تاني السنة دي، ونشوف ونسمع مع بعض لطيفة وهيّ بتتألق في الفيلم اللي كان حيجيب اجلي، لكن ربنا ستر. وسمحلي اشوفه معاكم. يوسف شاهين". قبل شهور قليلة، وحين كان يوسف شاهين متأرجحاً بين اقصى حالات التعب والمرض، وبين تصويره المتقطع لفيلمه الجديد "سكوت حنصوّر"، كنا هنا بين محبي صاحب "الأرض" و"المصير" الذين لم يحاولوا اخفاء قلقهم عليه. بالنسبة إلينا كان مرجحاً ان "جو" لن يكون قادراً على إنجاز فيلمه. وهو على أية حال، لم ينجزه في موعده المضروب، حيث كان الرهان، أولاً، أن ينجز الفيلم قبل ايار مايو من العام الحالي حيث يكون جاهزاً للعرض في مهرجان "كان". مرض يوسف شاهين، ودخوله المستشفى مرات عدة، والخطورة التي راحت في كل مرة تحيط به، وبحياته، كل هذا أخّر الفيلم. لكن العزاء كان في عرض الفيلم في مهرجان "البندقية" راجع في مكان آخر من هذه الصفحة، بدلاً من "كان". وفي إنجاز شاهين لفيلمه. قبل "البندقية" عرض الفيلم في القاهرة. البعض أحبه والبعض أحبه أقل، كالعادة. البعض قال إن شاهين اثبت مرة اخرى أنه سينمائي كبير، والبعض قال، كالعادة، ان شاهين لم يحقق ما كان مرجواً منه. ونعرف، ان ليس ثمة في هذه المواقف كلها اي امر استثنائي. فهي المواقف نفسها التي اعتدنا سماعها في كل مرة يعرض فيها لشاهين فيلم جديد. ويمكن ان نتوقع منذ الآن - وكما يحدث عادة - ان الذين أفرطوا في الإعجاب سوف تخف حماستهم مع الوقت، ولو قليلاً، وأن الذين أفرطوا في ابداء خيبة الأمل، سوف يعدلون موقفهم بعد فترة. هكذا اعتاد الأمر ان يكون مع شاهين، وأيضاً مع غير شاهين من الفنانين الكبار. وهذا، على أية حال، ليس بيت قصيدنا هنا. ما يهمنا هنا، هو يوسف شاهين نفسه. هذا الفنان الذي قدم، بالعبارات التي بها افتتحنا هذا الكلام، للعرض الخالص الذي جرى ل"سكوت حنصوّر" في القاهرة. وفي الوقت نفسه، اعلن شاهين، هامساً بعض الشيء، انه حتى قبل انجاز هذا الفيلم، بدأ يعد العدة لتحقيق فيلم آخر له، ربما يكون جزءاً من مشروع اكبر. واللافت ان الفيلم العتيد سوف يحمل، بحسب ما قال شاهين، عنواناً ذا دلالة هو، "الرغبة في الحياة". يوسف شاهين اليوم في السادسة والسبعين من عمره. وهو في هذا العمر عرف كيف يكذب، إذاً، ويهدئ من قلقنا ومخاوفنا حياله. وها هو يقول لنا، ليس فقط انه في خير ويعرف كيف ينجز فيلمه، بل انه مصر على ان يعطي فيلمه المقبل عنوان "الرغبة في الحياة". والمفرح في هذا كله ان عالم شاهين السينمائي، منذ "المصير" و"الآخر" وحتى "سكوت حنصوّر" على تفاوت الجودة وتنوع المواضيع، لا يزال قادراً على ان يعكس رغبة شاهين في السينما وفي الحياة. ولا يزال قادراً على ان يجعل من تلك الرغبة المزدوجة عدوى تصيب المحيطين به، وتصيب كذلك، محبي سينماه حتى من غير معارفه. في هذا الإطار، يكاد يوسف شاهين ان يكون وحيداً، فريداً من نوعه في عالم السينما العربية، إذ نعرف ان كل الذين عاصروا صاحب "المصير" و"الناصر صلاح الدين" من الذين لا يزالون على قيد الحياة - اطال الله اعمارهم - أخلدوا الى الصمت ولم يعد اي منهم راغباً في - أو قادراً على - الوقوف خلف الكاميرا لتحقيق فيلم جديد. وحالة شاهين نادرة حتى في السينماالعالمية، إذ، إذا نحن استثنينا اسماء قليلة في اوروبا - من بينها دي اوليفيرا البرتغالي وغودار ورومر الفرنسيان، سنجد ان كل السينمائيين الكبار الذين تجاوزوا السبعين من العمر، انتهوا فنياً. يوسف شاهين يمثل استثناءً طيباً. وهذا الأمر يفرحنا ويطمئننا بعد القلق الذي ساورنا منذ شهور. وإذ يمثل شاهين هذا الاستثناء، هل تعود ثمة اهمية لأن يجمع الناس على الإعجاب بفيلم جديد له، او على عدم الإعجاب به؟ في يقيننا ان هذا الأمر يصبح ثانوي الأهمية. لأن الأهم حضور شاهين نفسه، وحضور حيويته السينمائية والمناخات التي يولّدها. منذ خمسين سنة وأكثر بدأ "جو" توليف هذه المناخات وحيويتها. وهو لا يزال يفعل الآن في السادسة والسبعين. فهل أقل من ان ننتهز الفرصة لتوجيه التحية إليه؟