تشهد مجتمعاتنا الكثير من مظاهر العنصرية، كأي مجتمع آخر، وربما تكون مغروسة في جذورنا الثقافية وعاداتنا الاجتماعية، وتعبيراتنا اللغوية نتعامل بها من حيث لا نحتسب. وغالباً ما تتلازم مع التمييز اشكال معينة من الفقر، وتظهر بأنواع من السلوك العنفي. والراصد لمظاهر العنصرية، يجدها حتى في ابسط مقولاتنا، كما في تعبيرات "من ربعنا، او منطقتنا، او عشيرتنا، الخ"، والافتخار والتباهي بانجازات امتنا، او قومنا او حتى فريقنا لكرة القدم، وكما في قولنا "رأس تركي" للدلالة على الاصرار والجمود، وللدلالة على اللؤم والضغينة نقول "ضحكة صفراء"، وما يصف به الآخرون ب"عمل عربي"، ليعني على النقض، والتسويف، اما التمييز نحو المرأة فلا يزال قائماً تحت مسميات "تكرم عن طاريه، او الحرمة او الاستعارة من ولادة البنت"، والرجل الاسود الى الآن يلقب ب"العبد"، وغير ذلك من الألفاظ والتعابير المتداولة، وتبدو في غفلة لكثير من الناس غير مرئية وغير ملاحظة، ما لم تترافق مع لصيقتها التعبيرية "العنف". وهو ما يولد خطوة اولية، يتم بعدها النظر للآخرين بصطلحات تنم عن الدونية تدفعنا احياناً الى اعادة انتاج التحيز العرقي، حينما نخلق لأنفسنا هوية حصرية، وانتماء ضيقاً، لا يجمع الا "ربعنا"، وعبر ذلك نبدأ بالنظر للآخرين كأجانب او غرباء، او ضيوف ثقال او اعداء، وأحياناً يتضخم الاحساس بالهوية، ليصبح هدفه اقصاء الآخرين وانكار انسانيتهم. فالتفضيل والتحيز الناتج منهما العنصرية هو احساسنا بالتفوق او تضخيم الخصوصية، وهو امر لا تقتصر عليه مجتمعاتنا العربية، وانما يتجلى بوضوح اكثر في الامم الاوروبية. وهكذا في تمييز تبرئة مرتكب الجريمة، اذ نحاول التغطية عليه، للاعتبارات السابقة نفسها، في حين نكيل ونلفق التهم اذا كان خارجاً عن هويتنا الضيقة، وهذا ما يسمى في العمل السياسي "الكيل بمكيالين"، فالحاكم المنتهك لحقوق مواطنيه شعبه، لا يجد الادانة من قومه، لكن الاصوات تتعالى، والاستنكار يكون اشد، عندما يدان الحاكم نفسه من غير قومه الاجنبي، على رغم ان الجميع متساوون في الكرامة الانسانية. تُشرِّع بعض الحكومات قرارات مفعمة بالعنصرية والحقد على الآخر في بعض البلدان العربية، كما في قرار منح جائزة لمطلق زوجته، اذا كان اجدادها من غير الاصول العربية، وشاهدنا كيف يتم التنكر للحقوق الثقافية للأكراد في عدد من دول المنطقة، واما مشكلة الامازيغ والتركمان والأقباط والبلوش والقبائل في جنوب السودان والأرمن... فما زالت تتفاعل قضاياهم، ويتم اللجوء احياناً الى التاريخ لتزييف احداثه، لمجرد اثبات انتماء، او نفي لأقلية، نريد اغماط او منح حقوقها الانسانية المشروعة، فخرافة العنصر النقي والعرق الصافي، وظفت لغايات سياسية، تستبطن الحط من قدر اولئك الذين يعتقدون أنهم اقل منزلة، كما ورد في مقالات رئىس دولة عربية، كتب في صحيفة "الحزب الحاكم"، يصف اكثرية ابناء الشعب، بأنهم قوم جيء بهم من الهند ايام الفتوحات الاسلامية، لتربية الجاموس في الاهوار. نتعامل مع التمييز وباستمرار، وبأشكال عنصرية مقنعة وأكثر تعقيداً، مرتبطة بقضايا اوسع، كأشغال وظائف عامة، او عمل في بنية الدولة العليا، المحتكرة والمجوزة لفئة خاصة، فتغيير الوضع التمييزي، يتطلب ارتقاء في فكر وذهنية القائمين على السلطة، كاعطاء مبدأ تكافؤ الفرص دوراً حقيقياً، من دون الاعتماد على الصفة الحزبية او المناطقية او الطائفية او القرابة الشخصية، كما في احدى الدول العربية حيث يشغل وزير منصبه منذ اكثر من 20 عاماً، وعند مجابهة تلك الاوضاع التمييزية على اساس الطائفة او الانتماء القومي، ننكر، او نجد لها تبريراً في احسن الاحوال، بسبب كون الدور المحدد الذي تلعبه العنصرية، اقل وضوحاً ويمكن بالتالي انكاره بسهولة. أفرزت الاحداث المنصرمة مفردات عدة، كالتطهير العرقي، والعشيرة الحاكمة، والصراع الاثني، والتهجير الطائفي، ويبدو ان تجذر المفاهيم العنصرية في المجتمعات وتعميقها، يدفعان الى اعادة انتاج التحيز الطائفي او العرقي، فهذه المفردات تعبر بدقة وواقعية عن احداث جرت، لكنها غالباً ما تحجب الابعاد العنصرية لهذه الاحداث، وبالتالي تربك الجدل وتعقد النقاش حول التمييز في شكل عام، عند الشروع في البحث عن مخارج وحلول للأزمات المتولدة عن تلك الاحداث. يعاني ضحية التمييز احساساً من الاهانة والاذلال والخزي احياناً، مفعمة بمرارة الألم، بسبب انكار حقه في ان يكون انساناً كاملاً، متمتعاً بكرامته المتأصلة فيه، فالاحترام امر ضروري لتقليل الاحساس بالتمييز، لأن الآخر لا يطالبك الا باحترام مشاعره وشخصيته وآرائه، والذين لم يكابدوا العنصرية عموماً، يفشلون في ادراك كم هي مهينة وحاطة، ان التغلب على السلوك التمييزي عند الفرد، يتطلب المواجهة مع الثقافات المشجعة والمبررة لادامة العنصرية، مثل مكان العمل والمدرسة، وأماكن دور القضاء والشرطة، النوادي الاجتماعية في بقية مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. ومن ردود فعل الضحايا، الشروع ببناء هوية جماعية قوية منفصلة، يؤكدونها ويبرزونها في شكل واضح، ما يهدد الوحدة الوطنية عبر تمزق المجتمع وتفرقه الى هويات متنافسة... متقاتلة، تقود الى كارثة التفتت والتمزق ثم الانفصال. وعندما تشكلت دول جديدة في مرحلة التحرر، كان للكثير منها مقدار ضئيل من الهوية التاريخية او الطبيعية، ولم تكن تلك الدول راغبة في انضواء الأقليات اليها، او قامت على ممارسات تمييزية اضطهادية، كما في حال الاكراد والامازيغ وغيرهم، فهي ما زالت تقمع وبقسوة هويتهم الثقافية، اللغوية منها على الخصوص، والطائفية. فالسياسة العنصرية التي مارستها وتعلمتها حكومات ما بعد التحرر الوطني، والتي خلفها المستعمر، تعمل على تغذية النزعات القومية العربية التفضيلية، ووضعها في صيغة عقيدة سياسية، تتطرف في غالب الاحيان، لأنها تتمثل في ادامة اساس التمييز المعتمد على العنصر القوم، الطائفة، العشيرة... وهو ما يمنع او يقلل من الحصول على فرص متساوية من الخدمات الاجتماعية والاسكان والتعليم والعمل والخدمات الصحية، لطائفة او طرف سياسي او حجبها عن عرقيات او قوميات اخرى، كما هو الحال في مناطق وسط وجنوبالعراق المختلفة تماماً عن مدن سلطة الحكم. وفي هذا المجال وبعد مرور سنين طويلة مثقلة بالآلام في الكثير من بلدان الشرق الاسلامي، ما زالت الصيغ الطائفية والولاءات القبلية والمنافع الضيقة هي المهيمنة اجتماعياً وسياسياً. إن الثقافة القومية المبنية على افضلية العربي على غيره، هي التي خلقت ومن ثم بررت انماط عدم المساواة والتمييز، وصاغها مفكرو القومية العربية وساستها، ضمن برنامج عمل سياسي تبنته احزاب وحركات قومية شتى، وصلت بعضها الحكم وبقية اخرى معارضة. وهذه التوجهات يلاحظ منها انكار وجود اقلية عرقية داخل حدودها المفاهيمية، بحسب ما اورد ميشيل عفلق في تعريفه للعربي، وهو من سكن الوطن العربي الكبير، وبهذه الطريقة يتم لي وتفسير حقائق الجغرافيا السكانية لشعوب العالم العربي. وهكذا يتم انكار الحقائق والتعامي عنها، لتعمق الثقافة العنصرية، ما يتنافى مع تعريف الأممالمتحدة للتمييز وهو "كل تمييز او استثناء او تقييد او تفضيل يقوم على اساس العرق او اللون او النسب او الاصل القومي او الاثني ويستهدف او يستتبع تعطيل او عرقلة الاعتراف بحقوق الانسان والحريات الاساسية او التمتع بها او ممارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي او الميدان الاقتصادي او الميدان الاجتماعي او الميدان الثقافي او في اي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة". هناك رؤيتان رئيستان متنافستان في العالم العربي للهوية: الهوية الاسلامية، والأخرى القومية العربية، الاولى تقوم على عدم شمولها لغير المسلمين، والثانية تقصي غير العرب عنها، في حين لم توفق الرؤيتان في اعطاء اعتبار للكيانات الدينية الفرعية، مثل المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة والدروز والاسماعيلية والعلوية والأباضية وغيرها داخل اطار مرجعيتهما، وحدثت ولا تزال صراعات دموية في باكستان مثلاً، وهكذا في الهوية القومية، جرى القتل في لبنان على الهوية الدينية، بين المسلمين والمسيحيين في بعض مقاطع الحرب الاهلية، والسلطة الحاكمة تلعب دوراً في إذكاء الصور التمييزية، ففي حين تتمتع المجموعة المسيطرة بالتفويض لتعبر عن هويتها بصورة اكثر وضوحاً، تهمش في الوقت ذاته تيارات سياسية، وأقليات دينية وتجمعات سكانية، تنتمي الى غير جوقة الحكم، كما في الكثير من بلدان الشرق اوسطية. والتمييز لا يتعلق بالأعداد والأحجام، بل يتعلق اساساً بالضعف والقابلية للتمييز عند الآخرين. تسهم مسألة توزيع الثروات الوطنية في تأجيج الشعور بالعنصرية، عندما يساء تنفيذها من النظام الحاكم، على معايير أثنية او طائفية، مسبباً الحرمان الاجتماعي لمن يعانونه، فهم محرومون من الاتاحة المتساوية لفرص التمدن والتطور والتنمية الشاملة، على عكس قرى ومدن اهل السلطة، في طول الوطن العربي وعرضه. فالأحياء الفقيرة تعمق عند سكانها، شعوراً بالحرمان ومرارة التمييز، لأنهم من غير فئات الحكم، وقد يصنفون معارضين، وهو دليل تبرير التحامل العنصري والممارسات التمييزية ضدهم، ويتم احياناً تحريف المسؤولية الاخلاقية لمناهضة التمييز، فالأفراد الناجحون او المنخرطون في جوقة الحكم من داخل المجمعات التي تكابد التمييز، يتم الاستشهاد بهم كدليل للتقدم، ويقال إن الوضع اخذ في التقدم والتحسن نحو المشاركة الشعبية، لتحجيم ما هو متوقع من تلك الاحياء، وهو القيام بحركات فاعلة لاجبار السلطات على تعديل سياساتها. وهكذا تطور وتجذر ممارسات الوضع التمييزي، التي تقود في النهائية الى انهيار النظام، حيث يسقط بقسوة اكبر على الاشخاص الأشد فقراً وضعفاً، كسكان القرى والأرياف والطبقات العمالية والمهمشين من ضحايا التمييز. يتطور التمييز الخفي بسرعة تطور التشريعات نفسها التي تهدف الى كبحه، مع وجود القوانين المشرعة لتحريم التمييز، لكن المسؤولين عن تنفيذها يلتفون حولها، فهم يحترمون المعنى الحرفي للقانون، وليس هدفهم تعميم الفرص للجميع، وانما تساق المغانم طبقاً للتوجهات التمييزية، عبر تطور في الآليات الذكية للتمييز الخفي غير القابل للاثبات. كما في تغير السياسات التي تكون في ظاهرها محايدة عنصرياً، ولكنها صفة تمييزية في تأثيرها ونتائجها. وبعض ضحايا الاضطهاد يقومون باضطهاد من هم ادنى منهم، تمثلاً مع مقولة "الضحية جلاد ونصف". ولأجل اجتثاث العنصرية من جذورها لا تكفي التشريعات القانونية وحدها، ما لم تكن هناك عدالة اقتصادية، ومساءلة سياسية، وتحمل للمسؤولية في نشر الوعي والتنمية الاجتماعية والثقافية، وتغيير في الهياكل المؤسسية والتمييز المؤسسي، ومشاركة الرأي العام في الجدل الدائر حول التأثيرات السلبية للعنصرية في المجتمع. * كاتب عراقي مقيم في لندن.